الكتاب : دفع الشبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة المؤلف : الإمام أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن الحصني الحسيني الشافعي

الكتاب : دفع الشبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة
المؤلف : الإمام أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن الحصني الحسيني الشافعي
دفع الشبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم والرسالة
تأليف
الإمام تقي الدِّين أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن الحصني
________________________________________
ترجمة مختصرة للإمام الحصني:
قال صاحب شَذَرَات الذَّهَب (الجزء التاسع: الصفحات 273 ـ 275)، في وفيات عام (829هـ): وفيها الشيخ تقي الدِّين أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن بن حريز بن سعيد بن داود بن قاسم بن علي بن علوي بن ناشي بن جوهر بن علي بن أبي القاسم بن سالم بن عبدالله بن عمر بن موسى بن يحيى بن علي الاصغر بن محمد التّقي(1) بن حسن العسكري(2) بن علي [الهادي] بن محمد
____________
(1) كذا الصواب، وفي المطبوع: المتّقي.
(2) لفظة «العسكري» سقطت من «ط».
________________________________________
بن الجواد بن علي الرّضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصّادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
الحِصْني ـ نسبة إلى الحِصْن قرية من قرى حوران(1) ـ ثم الدمشقي، الفقيه الشافعي(2) .
ولد سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، وتفقه بالشّريشي، والزُّهري، وابن الجابي، والصَّرْخَدي، والغَزّي، وابن غَنُّوم. وأخذ عن الصَّدر اليَاسُوفي، ثم انحرف عن طريقته. وحطّ على ابن تَيْمِيَّة(3) ، وبالغ في ذلك، وتلقى ذلك عنه الطلبة بدمشق، وثارت بسبب ذلك فتن كثيرة.
وكان يميل إلى التقشف ويبالغ في الامر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وللناس فيه اعتقاد زائد.
ولخّص «المهمات» في مجلد، وكتب على «التنبيه».
قال القاضي تقي الدِّين الاسدي: كان خفيف الرّوح، منبسطاً، له نوادر، ويخرج إلى النُّزَه، ويبعث الطلبة على ذلك.
____________
(1) قال ياقوت في «معجم البلدان» (2/265): «حصن مَقْدِيَة»: هو من أعمال أذرعات من أعمال دمشق.
(2) ترجمته في «إنباء الغمر» لابن حجر العسقلاني 8/110 وفيه «محمد بن عبدالله» و«طبقات الشافعية» لابن قاضي شبهة (4/97 ـ 99) و«الضوء اللامع» للسخاوي (11/81) و«درر العقود الفريدة» للمقريزي (1/190 ـ 191)، وترجم له أيضاً: ابن خطيب الناصرية في تاريخ حلب، والرضيّ الغزّي في بهجة الناظرين، وله ترجمة في الفتاوى السهمية في ابن تيميّة.
(3) لفظة «تيمية» سقطت من «آ».
________________________________________
مع الدِّين المتين، والتَّحري في أقواله وأفعاله، وتزوَّج عدّة نساء، ثم انقطع وتقشَّف وانجمع، وكل ذلك قبل القرن(1) ، ثم ازداد بعد الفتنة تقشّفه وانجماعه، وكَثُرَت مع ذلك أتباعه، حتَّى امتنع من مكالمة الناس، ويُطلق لسانه في القُضاة وأصحاب الولايات.
وله في الزُّهد والتَّقلُّل من الدّنيا حكايات تضاهي ما نُقِلَ عن الاقدمين، وكان يتعصب للاشاعرة، وأصيب في سَمْعِهِ وبصره فضعف.
وشرع في عِمَارَة رِبَاط داخل باب الصغير، فساعده الناس بأموالهم وأنفسهم، ثم شرع في عِمَارَة خان السَّبيل ففرغ في مدة قريبة.
وكان قد جمع تآليف كثيرة قبل الفتنة، وكتب بخطّه كثيراً في الفقه والزُّهد.
وقال السخاوي: شَرَح «التنبيه»(2) و«المنهاج»(3) وشرح «مسلم» في ثلاث مجلدات، ولخّص «المهمات»(4) في مجلدين، وخرّجَ أحاديث «الاِحياء» مجلد(5) وشرح «النواوية» مجلد(6) ، و«أهوال القيامة»(7) مجلد، وجمع «سير
____________
(1) أي قبل دخول القرن التاسع الهجري.
(2) التنبيه لابي إسحاق الشيرازي، في الفقه الشافعي، والشرح (5) مجلدات.
(3) المنهاج للنووي، والشرح في (5) مجلدات.
(4) المهمات للاسنوي.
(5) قلت: لم أعثر على ذكر لكتابه المذكور عند السخاوي في «الضوء اللامع» ولكن ذكره ابن قاضي شهبة في «طبقاته» في معرض حديثه عن مؤلّفاته ولعلّ المؤلّف قد نقل عنه وعزا النقل للسخاوي. والله أعلم. (6) أي الاربعين النووية.
(7) في بعض المصادر: أهوال القبور.
________________________________________
نساء السَّلف العابدات» مجلد، و«قواعد الفقه» مجلد، و«تفسير القرآن إلى الانعام» آيات متفرّقة مجلد، و«تأديب القوم» مجلد، و«سير السالك» مجلد، و«تنبيه السالك على مضار(1) المهالك» ست مجلدات، و«شرح الغاية» مجلد، و«شرح النهاية» مجلد، و«قمع النّفوس» مجلد، و«دفع الشُّبه»(2) مجلد، و«شرح أسماء الله الحسنى» مجلد، و«المولد» مجلد.
وتوفي بخلوته بجامع المزَّاز بالشاغور، بعد مغرب ليلة الاربعاء خامس عشر جمادى الاخرة وصُلِّي عليه بالمصلى، صلَّى عليه ابن أخيه، ثم صُلِّي عليه ثانياً عند جامع كريم الدِّين، ودفن بالقُبيبات في أطراف العمارة على جادة الطريق عند والدته.
وحضر جنازته عَالَمٌ لا يحصيهم إلاّ الله، مع بعد المسافة وعدم علم أكثر الناس بوفاته، وازدحموا على حمله للتبرك به، وختم عند قبره ختمات كثيرة، وصلّى عليه أُمَمٌ ممن فاتته الصلاة على قبره، ورؤيت له منامات صالحة في حياته وبعد موته.
انتهى
____________
(1) في «ط»: «مظان» وما جاء في «آ» موافق لما عند ابن قاضي شهبة والسخاوي، وفي اسم الكتاب اختلاف.
(2) كتابنا هذا.
وفي كتاب البدر الطالع (1/166):
السيد أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن بن حريز ـ بمهملتين وآخره زاي ـ العَلَوي الحسيني الحصني ثم الدمشقي الشافعي المعروف بالتقي الحصني (ولد) سنة 752هـ.
وأخذ العلم عن جماعة من أهل عصره وبرع، وقصده الطلبة وصنف التصانيف كشرح التنبيه في خمس مجلدات، وشرح أربعين النووي في مجلد. وشرح مختصر أبي شجاع في مجلد. وشرح الاسماء الحسنى في مجلد، وتلخيص مهمّات الاسنوي في مجلدين، وقواعد الفقه في مجلدين. وله في التصوّف مصنّفات و(مات) ليلة الاربعاء منتصف جمادى الاخرة سنة 829هـ.
وقال خير الدين الزركلي الوهابي في الأعلام (2/99):
الامام تقي الدين أبي بكر الحصنيّ الدمشقي (ت 829هـ):
تقي الدين الحصني: (752 ـ 829هـ: 1351 ـ 1426م)أبو بكر بن محمد بن عبدالمؤمن بن حريز بن معلّى الحسيني الحصني، تقي الدين: فقيه ورع من أهل دمشق. ووفاته بها. نسبته إلى الحصن (من قرى حوران) وإليه تنسب «زاوية الحصني» بناها رباطاً في محلة الشاغور بدمشق، وله تصانيف كثيرة منها: كفاية الاخبار ـ ط، شرح به الغاية في فقه الشافعية، ودفع شبه من شبه وتمرّد ونسب ذلك إلى الامام أحمد ـ ط، وتخريج أحاديث الاحياء، وتنبيه السالك على مظان المهالك. ست مجلدات، وقمع النفوس.
________________________________________
سبب تأليف الكتاب وموضوعه، ونسخته:
قال العلامة التقي محبّ السنة والذاب عنها بكل ما استطاع في هذا العصر الشيخ محمد زاهد الكوثري: في ظهر الاصل المقابل به بخط الحافظ محمد بن طولون:
(فائدة) سبب تكلّم المؤلّف رحمه الله تعالى في ابن تيمية وأتباعه ما نقل له عن الشيخ العلامة ناصر الدين التنكزي: أَنه اجتمع ببعض من ينتسب للحنابلة قال: فرأيته يقول بمسألة التناسخ، ولا يقطع لاطفال المسلمين بالجنة وسمع منه هذا القول شخص آخر.
ونُقل للشيخ المؤلف أيضاً: أنّ شخصاً قال عند هذا المبتدع المشار إليه «يا جاه محمد».
فقال: لا تقل «يا جاه محمد»!
وكذا نقل له عن شخص آخر قال ذلك عنده، فقال: لا تقل «يا جاه محمد»،
فإنّه قد بقي قفة عظام؟» نعوذ بالله العظيم من هذه الزلة الجسيمة.
وسمع هذا الكلام أيضاً ابن أخ الشيخ المؤلف، فاجتمع مع عمه فتذاكرا ما وقع فيه الجاهل المشار إليه، ثم قال: يا عمّ، لو تكلّمت في ذلك، فقال: أَنا مشغول بنفسي.
فقال: ما يخلّصك هذا عند الله عزّوجلّ، كيف يتعرّض هذا الجاهل للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وحطّ مرتبته ومراتب النبيين ويتكلّم في الله بما لا يليق بجلاله، وغير ذلك مما هو زندقة؟؟! لا يخلّصك هذا عند الله مع تمكّنك من ردع هذا الزائغ عن تنزيه الله، وتعظيم رسوله عليه الصلاة والسلام.
فقال المؤلّف رحمه الله تعالى: ائتوني بشيء من كلام هذا الرجل، أنظر فيه، فإذا تكلّمتُ تكلمتُ على بصيرة…..
________________________________________
فأتي بأشياء من كلامه، فلمّا رأى كلامه، تكلّم بما تكلّم(رحمه الله)(1) :
قال شيخنا النعيمي ومن خطه نقلت: نقلتها من خطّ شيخنا شهاب الدين بن قرا، تلميذ المؤلّف ملخصاً لها:
انتهى ما وجدته بخط ابن طولون(2) في ظهر الاصل المذكور.
____________
(1) ولاحظ ما سيذكره المؤلّف عن سبب التأليف، في مقدمة الكتاب.
(2) فابن طولون هذا حافظ جليل له من المؤلّفات ما يقرب من ستمائة مؤلّف وتوفي سنة 953 سنة تسعمائة وثلاث وخمسين.
وشيخه عبدالقادر النعيمي له مؤلّفات جليلة وقد ترجم في الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة.
وابن قرا: هو الشهاب الخوارزمي المحدث، مترجم في الضوء اللامع.
قاله صاحب الاصل.
وترجمة المصنف مبسوطة في كتاب (الضوء اللامع في القرن التاسع) للحافظ محمد بن عبدالرحمن السخاوي، وفي (طبقات الشافعية) للتقي ابن قاضي شهبة وفي (الطبقات) للرضي الغزي العامري.
وله مؤلّفات ممتعة: كشرحه على صحيح مسلم في ثلاث مجلدات وشرحه على التنبيه في خمس مجلدات، وشرح على المنهاج كذلك، وطبع حديثاً شرحه على مختصر أبي شجاع في مجلدين، وكان من مفاخر الشافعية في عصره زهداً وعلماً وسيرة، وسنستوفي ترجمته إن شاء الله تعالى عند قيامنا بشرحه.
انتهى كلام الامام الكوثري.
كلمة لادارة المطبعة
للطبعة الاولى عام (1350هـ)
من عجائب الصدف أننا ما كدنا ننتهي من طبع آخر ملزمة من الكتاب البديع
(غوث العباد ببيان الرشاد) لحضرة صاحب الفضيلة ملك البيان وحامل لواء البرهان الاستاذ الشيخ مصطفى أبو سيف الحمامي أحد العلماء وخطيب المسجد الزينبي.
حتى ساق الله تعالى إلينا نسخة خطية جليلة من كتاب «دفع شبه من شبّه وتمرّد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الامام أحمد» للامام الهمام أبي بكر تقي الدين الحصني(رضي الله عنه).
________________________________________
عُني حضرة صاحب الفضيلة المرشد الجليل والعلامة النبيل الشيخ سلامة العزّامي النقشبندي باستنساخها ونقلها من نسخة أخرى خطية ليس في القطر المصري سواها ـ على ما نعلم ـ هي لحضرة صاحب الفضيلة البحاثة المعروف والجهبذ الشهير الشيخ محمد زاهد الكوثري.
ومن فضل الله علينا أن هيّأ لنا من الظروف ما مكننا بعد قليل من النسخة الاصلية التي بيد الشيخ الكوثري.
فرأينا أن يكون الجمع مع النسخة الفرعية والمقابلة في التصحيح على النسخة الاصلية ليخرج الكتاب كما نحب له من الصحة والاتقان.
وإنا نقدمه، بيد الفرح والسرور، إلى إخواننا في جميع أنحاء العالم الاسلامي، راجين أن يكون ذلك خدمة لهم ولديننا الحنيف الذي يعنينا ويهمّنا كثيراً أن نعيش ونموت في خدمته.
وربنا المسؤول ـ وهو أكرم الاكرمين ـ أن يحقق لنا هذه الامنية الغالية.
إدارة مطبعة دار إحياء الكتب العربية
القاهرة 1350هـ.
هذه النسخة:
اعتمدنا في تحقيق الكتاب على النسخة المطبوعة في دار إحياء الكتاب العربي، لاصحابها عيسى البابي الحلبي وشركاؤه، في القاهرة عام (1350هـ) عن نسخة الامام المحقق العلامة الكوثري، مع تعليقاته الثمينة.
وقد اطلعنا على وجود نسخة للكتاب مخطوطة في مكتبة جستربتي بمدينة دبلن الايرلندية برقم (4) في المجموعة (3406) كتبت عام (830) أي بعام واحد بعد وفاة المؤلّف جاء ذكرها في مقال (ذخائر التراث العربي) المنشور في مجلة (المورد) البغدادية، العدد الاول السنة الاُولى.
وقد قمنا بتصحيح المطبوعة، وعرضها على المصادر التي اعتمدها المؤلّف، مثل كتاب (دفع شُبَه التشبيه) لابن الجوزيّ الحنبلي.
الذي نقل عنه المؤلّف قسماً كبيراً من عباراته واعتمدنا النسخة المطبوعة حديثاً في دار الامام النووي ـ في الاردن ـ عمّان، بضبط فضيلة الشيخ حازم نايف أبو عزان، وتحقيق وتقديم العلامة المحدّث السيد حسن السقاف.
________________________________________
وقد حاولنا تخريج ما أثبته المؤلف من الاحاديث الشريفة، حسب المتوفّر من المصادر، وتصحيح المطبوعة حسب الوارد فيها.
وكذلك تصويب العبارات التي وقع الخطأ في طباعتها، ومنها عبارة الصلاة البتراء التي وقعت في الكتاب، بعد ذكر الرسول، حيث أثبتناها مع ذكر (آله) حذراً من ذلك البتر، واتّباعاً للسنّة المطهّرة التي علّمتنا الصلاة والسلام على نبيّنا الاكرم، بذكر آله معه في ذلك التكريم.
ثم وضعنا عناوين لما جاء في الكتاب مستخدمين المعقوفات لتمييزها عما جاء من العناوين في الاصل المطبوع.
وقدّمنا الكتاب بتقديم احتوى على التعريف بالمؤلّف، حسب المصادر التي ترجمت لحياته.
والتعريف بالكتاب وذكر سبب تأليفه وبيان موضوعه، وعن نسخته هذه.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين لقراءته والتزوّد مما أثبته المؤلّف فيه من حقائق، وأن يجزيه وإيانا على العمل الصالح، ويغفر لنا سيّئات أعمالنا آمين.
ونحمد الله على إحسانه وإفضاله، ونسأله الرضا عنا بجلاله وإكرامه، إنّه ذوالجلال والاكرام.
وآخر دعوانا أنّ الحمد لله ربّ العالمين.
[مقدّمة المؤلّف وسبب التأليف]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين: وصلّى الله على سيّد الاوّلين والاخرين، وأكرم
السابقين واللاحقين، وسلّم ومجّد وكرّم.
سبحان من بيده الضرّ والنفع، والوصل والقطع، والتفرقة والجمع، والعطاء والمنع، وفّق من أحبّ لتنزيهه، فحمى موضع نظره منه، وكذا السمع، وخذل من أبغض، فجرى لشقاوته على ما اعتاده وألِفه من رديء الطبع، فهبّ على الاوّل نسيمُ إسعاده، وعلى الثاني ريحُ إبعاده، لصدع قلبه بتمويه العدّو، فياله من صَدْعِ.
تقدّس وتمجّد بعزّ كبريائه وجلاله، وتفرّد بأوصاف عظمته وكماله، كما عمّ بجودهوإفضاله ونَواله. تقدّسوتبارك عن مشابهة العبيد،وتنزّه عن صفات الحدوث.
فمن شبّه فقد شابه السامرة وأبا جهل والوليد، ومن عطّل ما ثبت له من صفاته
________________________________________
بالادلة القاطعة فهو عن الحقّ مائل ومُحيد(1) ، وكلا القسمين سفيه وشقّي وغير رشيد، ومن ورائهما عذاب شديد.
ونال خِلَع الرضوان في دار الامان من نزّه، مع تزايد الكرامات ولديه مزيد.
فشتّان بين من هو راتع في رياض السلامة، ونُزُل الكرامة، في دار المقامة، وبين المطرود المبعود(2) ، وقد حقّ عليه الوعيد.
وبعدُ: فإنّ سبب وضعي لهذه الاحرف اليسيرة، ما دهمني من الحَيْرة من أقوام أخباث السريرة ; يُظهرون الانتماء الى مذهب السيّد الجليل الامام أحمد ; وهم على خلاف ذلك والفرد الصمد.
والعجب أنّهم يُعظّمونه في الملا، ويتكاتمون إضلاله مع بقيّة الائمة !
وهم أكفر مّمن تمرّد وجحد، ويضلّون عقول العوامّ وضعفاء الطلبة بالتمويه الشيطاني، وإظهار التعبّد والتقشّف، وقراءة الاحاديث، ويعتنون بالمُسنَد.
كلّ ذلك خُزَعْبَلات منهم وتمويه.
وقد انكشف أمرهم حتّى لبعض العوامّ، وبهذه الاحرف يظهر الامر ـ إن شاء الله تعالى ـ لكلّ أحد، إلاّ لمن أراد عزّ وجلّ إضلاله وإبقاءه في العذاب السرمد.
ومن قال بنفي ذلك ـ أي بنفي خلود العذاب وسرمديّته، وهو ابن تيميّة وأتباعه ـ فد تجرّأ على كلام الغفور، قال تعالى (والّذّين كَفَرُوا لَهمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا
____________
(1) كان ينبغي أن يقول: «حائد»، ولعلّه اختار ذلك مراعاة للسجع. انتهى. مصحّحه.
(2) اسم المفعول «مُبَعد»، فيقال فيه كما قيل فيما قبله. انتهى. مصحِّحه.
يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عَنْهم مِنْ عَذابِهْا كذلك نجزي كلَّ كَفُور)(1) .
وعلى العليم الحكيم في قوله تعالى: (يُرِيدونَ أن يخرجوا مِن النّار وما هُمْ بخارجين منها ولهم عذابٌ مُقيم)(2) .
والايات في ذلك كثيرة عموماً وخصوصاً.
ومنها قوله تعالى: (رَبّنا اصرفْ عَنّا عَذَاب جَهنم إنّ عذابها كان غراما)(3) والغرام المستمّر الذي لا ينقطع، فلو انقطع قدر نَفَس لا يسمى غراماً.
ومن ذلك قوله تعالى: (وجاء رَبُّك)(4) .
________________________________________
قال الامام أحمد: معناه جاء أمر ربك. قال القاضي أبو يعلى: قال الامام أحمد: المراد به قدرته وأمره، وقد بيّنه في قوله تعالى: (أو يأتي أمر رَبِّكَ)(5) .
يُشير إلى حمل المُطلق على المُقيَّد، وهو كثير في القرآن والسنّة والاجماع وفي كلام علماء الاُمة، لانّه لا يجوز عليه الانتقال سبحانه وتعالى.
ومثله حديث النزول.
ومّمن صرّح بذلك الامام الاوزاعي والامام مالك ; لانّ الانتقال والحركة من
____________
(1) سورة فاطر: 36.
(2) سورة المائدة: 37.
(3) سورة الفرقان: 65. (4) سورة الفجر: 22.
(5) سورة النحل: 33.
صفات الحَدَث، والله عزّ وجلّ قد نزّه نفسه عن ذلك.
ومن ذلك قوله تعالى (إستوى على العرش)(1) .
فإذا سأل العامّي عن ذلك فيقال له: الاستواء معلوم، والكَيْف مجهول(2) ، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة(3) .
وسنوضّح ذلك إن شاء الله تعالى.
وإنّما أجاب الامام ربيعة بذلك، وتبعه تلميذه مالك ; لانّ الاستواء الذي يفهمه العوامّ من صفات الحدث، وهو سبحانه وتعالى ـ نزّه نفسه عن ذلك بقوله تعالى (ليس كمثله شيء)(4) ، فمتى وقع التشبيه ولو بزنة ذَرّة جاء الكفر بالقرآن.
قال الائمة: وإنّما قيل: السؤال بِدعة ; لانّ كثيراً مّمن يُنسب الى الفقه والعلم، لا
____________
(1) سورة الاعراف: 54.
(2) في (دفع شبه التشبيه) لابن الجوزي: والكيف غير معقول.
وعلّق محقّقه: أن «الكيف مجهول» غلط لانه يثبت لله تعالى كيفاً مجهولاً إلى آخر ما قال.
ولعل المراد بقولهم «الكيف؟» هو السؤال عن كيفية الاستواء؟ الذي يزعم الحشوية والمجسّمة بثبوته لله، حسب ظاهره وبلا تأويل !
وهو الذي تهرّبوا منه بالبلكفّة، أي بقولهم: بلا كيف! فليلاحظ.
(3) قاله ابن الجوزي في (دفع شبه التشبيه) ص110.
(4) سورة الشورى: 11.
يُدركون الغوامض في غير المتشابه، فكيف بالمتشابه؟!
فآيات المتشابه وأحاديثه لا يعلمها إلاّ الله سبحانه، والقرآن والسُنّة طافحان بتنزيهه عزّ وجلّ.
________________________________________
ومن أسمائه القُدّوس، وفي ذلك المبالغة في التنزيه ونفي خيال التشبيه.
وكذا في قوله تعالى:(قُلْ هُو الله أحد…الى آخره)(1) لما فيها من نفي الجنسيّة والبعضيّة، وغير ذلك مّما فيه مبالغة في تنزيهه سبحانه وتعالى.
وكان الامام أحمد (رضي الله عنه) يقول: أمِرّوا الاحاديث كما جاءت(2) .
وعلى ما قال جرى كبار أصحابه كإبراهيم الحربي وأبي داود والاثرم، ومن كبار أتباعه أبو الحسين المنادي، وكان من المحقّقين، وكذلك أبو الحسن التميمي، وأبو محمد رزق الله بن عبدالوهاب، وغيرهم من أساطين الائمة في مذهب الامام أحمد(3) .
وجروا على ما قاله في حالة العافية وفي حالة الابتلاء.
فقال تحت السياط: «فكيف أقول ما لم يقل».
وقال في آية الاستواء: «هو كما أراد».
فمن قال عنه: إنّه من صفات الذات، أو صفات الفعل، أو إنّه قال: إنّ ظاهره مراد، فقد افترى عليه، وحسيبه الله تعالى فيما نسب إليه مّما فيه إلحاقه ـ عزّ وجلّ ـ
____________
(1) سورة الاخلاص: 1.
(2) سنن الترمذي 4/692، لاحظ دفع شبه التشبيه ص111.
(3) نفس المصدر والموضع.
بخلقه الذي هو كفر صراح ; لمخالفته كلامه فيما نزّه نفسه به سبحانه وتعالى عمّا يقولون.
[القائلون بالتجسيم من أئمة الحنابلة !]
ومنهم ابن حامد(1) والقاضي تلميذه(2) وابن الزاغوني(3) ، وهؤلاء مّمن ينتمي الى الامام، ويتبعهم على ذلك الجهلة بالامام أحمد وبما هو معتمده مّما ذكرت بعضه، وبالغوا في الافتراء ; إمّا لجهلهم، وإمّا لضغينة في قلوبهم، كالمغيرة بن سعيد وأبي محمّد عبدالله الكرامي ; لانهم أفراخ السامرة في التشبيه ويهود في التجسيم.
____________
(1) الحسن بن حامد البغدادي الورّاق (توفي 403) كان من أكبر مصنفي الحنابلة وشيخهم، له شرح اُصول الدين، ردّ عليه ابن الجوزي في (دفع شبه التشبيه) ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء ج17.
________________________________________
(2) هو القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن الفرّاء الحنبلي (توفي 458) هو صاحب كتاب الصفات نقل ابن الاثير في الكامل 10/52 قول التميمي فيه: لقد شان أبو يعلى الحنابلة شيناً لا يغسله ماء البحار. وقال في حوادث عام (429) فيها أنكر العلماء على ابن الفرّاء ما ضمنه كتابه من الصفات المشعرة بأنه يعتقد التجسيم.
وقال في حوادث (458) اتى في كتابه بكل عجيبة وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض.
وقد طبع هذا الكتاب بعض الوهابيّة الموحّدين! في هذا العصر !
(3) علي بن عبيدالله بن نصر الحنبلي (توفي 527) صاحب كتاب الايضاح، وهو من كتب التجسيم.
ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء 19/607.
وحُرِق المغيرة ومعه خمسة من أتباعه، كما أذكره(1) من بعد.
قال ابن حامد في قوله تعالى:(ويبقى وجه ربّكَ)(2) ، وفي قوله تعالى: (كُلُّ شيء هالك إلاّ وجههُ)(3) : «نُثبت لله وجهاً، ولا نثبت له رأساً»، وقال غيره: «يموت إلاّ وجهه».
وذكروا أشياء يَقْشَعِرُّ الجسد من ذكر بعضها.
قال أبو الفرج بن الجوزي(4) : رأيت من تكلّم من أصحابنا في الاُصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف، وهم ثلاثة: ابن حامد، وصاحبه القاضي، وابن الزاغوني، صنّفوا كُتباً شانوا بها المذهب.
وقد رأيتهم نزلوا الى مرتبة العوامّ، فحملوا الصفات على مقتضى الحسّ.
فسمعوا أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً زائداً على الذات، وعينين وفماً ولهوات وأضراساً ويدين وأصابع وكفّاً وخنصراً وإبهاماً وصدراً وفَخِذاً وساقين ورِجلين.
وقالوا: ما سمعنا بذكر الرأس.
____________
(1) في ص ؟؟.
(2) سورة الرحمن: 27.
(3) سورة القصص: 88.
(4) دفع شبه التشبيه بأكفّ التنزيه ص97 ـ 104.
وقالوا: يجوز أن يُمَسّ ويَمُسّ ويُدني العبد من ذاته.
وقال بعضهم: ويتنفّس.
ثمّ إنّهم يُرضُون العوامّ بقولهم: لا كما يُعقل.
________________________________________
وقد أخذوا بالظواهر في الاسماء والاضافات، فسمّوا الصفات تسمية مُبتدعة ; لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل.
ولم يلتفتوا الى النصوص الصارفة عن الظواهر الى المعاني الواجبة لله سبحانه وتعالى، ولا الى إلغاء ما توجبه الظواهر من سِمات الحَدَث.
ولم يقنعوا أن يقولوا: صفة فعل ; حتّى قالوا: صفة ذات.
ثمّ لمّا أثبتوا أنّها صفات [ذات] قالوا: لا نحملها على ما توجبه اللغة، مثل اليد على النعمة أو القدرة، ولا المجيء على معنى البِرّ واللطف، ولا الساق على الشدّة، ونحو ذلك.
بل قالوا: نحملها على ظواهرها المتعارفة.
والظاهر هو المعهود من نعوت الادميّين، والشيء إنّما يُحمل على حقيقته إذا أمكن، فإن صرف صارف حُمل على المجاز.
وهم يتحرّجون من التشبيه، ويأنفون من إضافته إليهم، ويقولون: نحن أهل السُّنّة وكلامهم صريح في التشبيه.
وقد تبعهم خلق من العوامّ على ذلك لجهلهم ونقص عقولهم، وكفروا تقليداً، وقد نصحتُ للتابع والمتبوع.
[عتاب المؤلّف مع الحنابلة!]
ثمّ أقول لهم على وجه التوبيخ: ياأصحابنا أنتم أصحاب نقل وأتباع، وإمامكم الاكبر أحمد بن حنبل يقول ]وهو تحت السياط[: «كيف أقول ما لم يقل؟!».
هل بلغكم أنّه قال: إنّ الاستواء من صفة الذات المقدّسة، أو صفة الفعل؟
فمن أين أقدمتم على هذه الاشياء؟!
وهذا كلّه ابتداع قبيح بمن ينكر البِدْعة ؟
ثمّ قلتم: إنّ الاحاديث تُحمل على ظاهرها، وظاهر القدم الجارحة.
وإنّما يقال: تُمرّ كما جاءت، ولا تقاس بشيء.
فمن قال: «استوى بذاته»، فقد أجراه مجرى الحسّيّات، وذلك عين التشبيه.
فاصرفوا بالعقول الصحيحة عنه سبحانه ما لا يليق به من تشبيه أو تجسيم.
وأمِرّوا الاحاديث كما جاءت من غير زيادة ولا نقص.
فلو أنكم قلتم: نقرأ الاحاديث ونسكت، لما أنكر عليكم أحد.
________________________________________
ولا تُدخِلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ـ أعني الامام أحمد ـ ما ليس منه، فلقد كسوتم هذا المذهب شيناً قبيحاً ; حتّى لا يقال عن حنبليّ إلاّ مجسّم.
ثمّ زيّنتم مذهبكم بالعصبيّة لـ «يزيد بن معاوية»، وقد علمتم أنّ صاحب المذهب أجاز لعنته.
وقد كان أبو محمّد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان المذهبَ شيناً قبيحاً لا يُغسل الى يوم القيامة(1) .
____________
(1) إلى هنا المنقول عن ابن الجوزي في (دفع شبه التشبيه) وبين المنقول والمطبوع هناك اختلاف، أثبتنا بعضه بين المعقوفات.
فالحاصل من كلام ابن حامد والقاضي وابن الزاغوني ـ من التشبيه والصفات التي لا تليق بجناب الحقّ ـ سبحانه وتعالى ـ هي نَزْعة سامرية في التجسيم، ونزعة يهودية في التشبيه، وكذا نزعة نصرانية.
فإنّه لمّا قيل عن عيسى (عليه السلام): إنّه روح الله سبحانه وتعالى، اعتقدت النصارى أنّ لله صفة هي روح ولجت في مريم(عليها السلام).
وهؤلاء وقع لهم الغلط من سوء فهمهم، وما ذاك إلاّ أنّهم سمّوا الاخبار أخبار صفات، وإنّما هي إضافات، وليس كلّ مضاف صفة.
فإنّه ـ سبحانهوتعالى ـ قال: (ونَفَخْتُ فيه مِن روحي)(1) ، وليسلله صفة تسمّى روحاً، فقد ابتدع من سمّى المضاف صفة، ونادى على نفسه بالجهل وسوء الفهم.
[تأرجح الحنابلة مع الهوى في التجسيم والتأويل]
ثمّ إنّهم في مواضع يؤوّلون بالتشهّي.
وفي مواضع أغراضِهم الفاسدة يُجرون الاحاديث على مقتضى العرف والحسّ، ويقولون ينزل بذاته، وينتقل ويتحرّك، ويجلس على العرش بذاته.
ثم يقولون: لا كما يُعقل، يغالطون بذلك من يسمع من عامّي وسيّء الفهم.
وذلك عين التناقض، ومكابرة في الحسّ والعقل ; لانّه كلام متهافت يدفع آخره أوّله وأوّلُه آخره.
____________
(1) سورة الحجر: 29، سورة ص: 72.
وفي كلامهم: «نُنزّهه غير أنّنا لا ننفي عنه حقيقة النزول».
وهذا كلام من لا يعقل ما يقول.
________________________________________
ومثل قول بعضهم: المفهوم من قوله: (هُو اللهُ الحيّ القيُّومُ)(1) في حقه هو المفهوم في حقّنا إلاّ أنّه ليس كمثله شيء.
فانظر ـ أرشدك الله ـ كيف حكم بالتشبيه المساوي، ثمّ عقّبه بهذا التناقض الصريح؟!
وهذا لا يرضى أن يقوله من له أدنى رَويّة.
ولهم من مثل هذه التناقضات ما لا يحصى.
[تناقض دعواهم]
ومن التناقض الواضح في دعواهم في قوله تعالى: (الرحمنُ على العرشِ استوى)(2) أنّه مستقرّ على العرش.
مع قولهم في قوله تعالى: (أأمِنتُم مَنْ في السماءِ)(3) إنّ من قال: إنّه ليس في السماءِ فهو كافر. ومن المحال أن يكون الشيء الواحد في حيِّزينِ في آن واحد وفي زمن واحد، ومن المعلوم أنّ «في» للظرفية، ويلزم أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ مظروف تعالى عن ذلك.
____________
(1) البقرة: 255، آل عمران: 2.
(2) سورة طه: 5.
(3) سورة الملك: 16.
وفي البخاري(1) من حديث أنس: (أنّه (عليه السلام) رأى نُخامة في القبلة، فشقّ ذلك عليه حتّى رُؤي في وجهه، فقال فحكّها بيده، فقال: إنّ أحدكم إذا قام في صلاته، فإنّه يُناجي ربّه، أو إنّ ربّه بينه وبين القبلة)(2) .
وفيه من حديث ابن عمر (رضي الله عنه): أنّه (عليه السلام) رأى نخامة في جدار الكعبة فحكّها، ثمّ أقبل على الناس، فقال: إذا كان أحدكم يصلّي فلا يبصق قِبَل وجهه، فإنّ الله قِبَل وجهه إذا صلى».
وفي «صحيح مسلم»(3) وغيره من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه): أنّه (عليه السلام) رأى نُخامة في القبلة فقال: (ما بال أحدكم يستقبل ربّه فيتنخّع أمامه، أيُحبّ أحدكم أن يستقبل فيُنخَّع في وجهه).
وفي الصحيحين(4) من حديث أبي موسى الاشعري (رضي الله عنه): أنّه (عليه السلام) قال: (يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم ; إنّكم ليس تدعون أصمّ ولا غائباً ; إنّكم تدعون سميعاً قريباً، وهو معكم).
____________
________________________________________
(1) صحيح البخاري: 1 / 159ح 397 كتاب الصلاة / أبواب المساجد. ولاحظ فتح الباري (1/508)، وقال: فيه الردّ على من زعم أنّه على العرش بذاته.
(2) نفس المصدر السابق ح398. ولاحظ فتح الباري (1/509).
(3) صحيح مسلم: 2 / 76 كتاب الصلاة.
(4) صحيح البخاري: 4 / 541 ح 3986 كتاب المغازي، صحيح مسلم: 8 / 73 كتاب الذكر والدعاء والتوبة.
وفي رواية: (والذي تدعون أقرب الى أحدكم من عُنُق راحلته)(1) .
وفي الصحيح(2) : (أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه يذكرني).
وحديث المريض(3) : (أما لو عدته لَوَجدتني عنده).
وقال تعالى: (وناديناهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الايمنِ)(4) .
وقال تعالى: (ونوديَ مِنْ شاطيء الوادي الايمنِ في البقعة المباركةِ مِنَ الشجرةِ أنْ ياموسى إنّي أنا الله ربُّ العالمينَ)(5) .
وقال تعالى: (فأينما تُوَلّوا فَثمَّ وجهُ اللهِ)(6) .
وفي الترمذي(7) في حديث العنان، وفيه ذكر الارضين السبع ; وأنّ بين كلّ أرض والاُخرى كما بين السماء والارض، قال (عليه السلام): (والذي نفسي بيده لو دلّى
____________
(1) مسند أحمد: 4 / 402، وهو في الجامع الصحيح للربيع بن حبيب 3/35.
(2) صحيح البخاري: 6 / 2694 ح 6970 كتاب التوحيد. ]وصحيح مسلم 8 / 91 كتاب التوبة [والنص بلفظ مسلم.
(3) كنز العمال: 15 / 824 ح 43277.
(4) سورة مريم: 52.
(5) سورة القصص: 30.
(6) سورة البقرة: 115.
(7) سنن الترمذي: 5 / 376 ـ 377 ح 3298 كتاب التفسير.
أحدكم بحبل لوقع على الله سبحانه وتعالى).
ومثل هذه الادلّة كثير، وكلّها قاضية بالكون السُّفلي دون العُلوي.
[الاستواء لغة وتأويلاً]
واعلم(1) أنّ الاستواء في اللغة على وجوه، وأصله افتعال من السواء، ومعناه ـ أي السواء ـ العدل والوسط، وله وجوه في الاستعمال:
منها: الاعتدال، قال بعض بني تميم: استوى ظالم العشيرة والمظلوم ; أي اعتدلاً.
ومنها: إتمام الشيء، ومنه قوله تعالى: (وَلَمّا بَلَغَ أشُدَّه واستوى)(2) .
________________________________________
ومنها: القصد الى الشيء، ومنه قوله تعالى:(ثُمَّ استوى الى السَّماء)(3) ; أي قصد خلقها.
ومنها: الاستيلاء على الشيء، ومنه قول الشاعر:
ثُمّ استوى بِشرٌ على العراقِ … من غير سيف ودم مُهراقِ
____________
(1) من هنا ذكره ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه ص121 وانظر هامش ص123.
(2) القصص: 14.
(3) سورة البقرة: 29.
وقال آخر:
إذا ما غزا قوماً أباح حريمَهم … وأضحى على ما ملّكوه قد استوى(1)
ومنها: بمعنى استقرّ، ومنه قوله تعالى: (واستوت على الجُوديّ)(2) .
وهذه صفة المخلوق الحادث، كقوله تعالى: (وجَعَلَ لكُم مِن الفلكِ والانعامِ ما تركبُون لتستوُوا على ظُهورهِ)(3) .
وهو نزّه نفسه سبحانه عن ذلك في كتابه العزيز في غير ما موضع، وقطع المادّة في ذلك أنّ المسألة علميّة وكفى الله المؤمنين القتال والجدال.
[كلام ابن الجوزي الحنبلي في الردّ على المجسّمة]
قال أبو الفرج بن الجوزي: وجميع السلف على إمرار هذه الاية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل.
قال عبدالله بن وهب: كنّا عند مالك بن أنس ودخل رجل، فقال: يا أبا
____________
(1) إلى هنا عن (دفع شبه التشبيه) ص121.
(2) سورة هود: 44.
(3) سورة الزخرف: 12.
عبدالله (الرحمن على العرشِ استوى)(1) ، كيف استواؤه؟
فأطرق مالك وأخذته الرُّحَضاء(2) ، ثمّ رفع رأسه فقال: (الرحمنُ على العرشِ استوى) ، كما وصف نفسه، ولا يقال له: كيف، و«كيف» عنه مرفوع، وأنت رجل سوء صاحب بِدعة أخرجوه، فأُخرج(3) .
كان ابن حامد يقول: المراد بالاستواء القعود(4) .
وزاد بعضهم: استوى على العرش بذاته، فزاد هذه الزيادة، وهي جُرأة على الله بما لم يقل.
قال أبو الفرج: وقد ذهب طائفة من أصحابنا الى أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ على عرشه ما ملاه، وأنّه يُقعِد نبيّه معه على العرش(5) .
ثمّ قال: والعجب من قول هذا: ما نحن مجسّمة !
________________________________________
وهو تشبيه محض، تعالى الله ـ عزّ وجلّ ـ عن المحلّ والحيّز ; لاستغنائه عنهما، ولانّ ذلك مستحيل في حقّه ـ عزّ وجلّ ـ ولانّ المحلّ والحيّز من لوازم الاجرام، ولانزاع في ذلك، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ منزّه عن ذلك ; لانّ الاجرام من صفات
____________
(1) سورة طه: 5.
(2) العرق الكثير يغسل الجلد.
(3) دفع شبه التشبيه ص122 وأنظر تعليقته.
(4) دفع شبه التشبيه ص128.
(5) دفع شبه التشبيه ص128.
الحدث، وهو عزّ وجلّ منزّه عن ذلك شرعاً وعقلاً، بل هو أزليّ لم يسبق بعدم ; بخلاف الحادث.
ومن المعلوم أنّ الاستواء إذا كان بمعنى الاستقرار والقعود لابدّ فيه من المماسة، والمماسّة إنّما تقع بين جسمين أو جُرمين.
والقائل بهذا شبّه وجسّم، وما أبقى في التجسيم والتشبيه بقيّة، كما أبطل دلالة (ليس كمثله شيء)(1) .
ومن المعلوم في قوله تعالى (لتستووا على ظهورهِ)(2) أنّه الاستقرار على الانعام والسفن، وذلك من صفات الادميين.
فمن جعل الاستواء على العرش بمعنى الاستقرار والتمكّن، فقد ساوى بينه ـ عزّ وجلّ ـ وبين خلقه.
وذلك من الامور الواضحة التي لا يقف في تصوّرها بليد، فضلاً عمّن هو حسن التصوّر جيّد الفهم والذوق، وحينئذ فلا يقف في تكذيبه (ليس كمِثِله شيء) وذلك كفر محقّق.
ثمّ من المعلوم أنّ (الاستواء) من الالفاظ الموضوعة بالاشتراك، وهو من قبيل المجمل، فدعواه أنّه بمعنى الاستقرار في غاية الجهل ; لجعله المشترك دليلاً على أحد أقسامه خاصّة.
فالحمار مع بلادته لا يرضى لنفسه أن يكون ضُحكة ; لجعله القسم قسيماً.
فمن تأمّل هؤلاء الحمقى وجدهم على جهل مركّب ; يحتجّون بالادلّة المجملة
____________
(1) سورة الشورى: 11.
(2) سورة الزخرف: 13.
التي لا دليل فيها قطعاً عند أهل العلم.
ويتركون الادلّة التي ظاهرها في غاية الظهور في الدليل على خلاف دعواهم، بل بعضها نصوص، كما قدّمته في حديث النخامة وغيرها. فتنبّه لذلك لتبقى على بصيرة من جهل أولئك.
________________________________________
ومن المعلوم أنّه ـ عزّ وجلّ ـ واجب الوجود كان، ولا زمان ولا مكان، وهما ـ أعني الزمان والمكان ـ مخلوقان.
وبالضرورة أنّ من هو في مكان فهو مقهور محاط به، ويكون مقدّراً ومحدوداً.
وهو ـ سبحانه وتعالى ـ منزّه عن التقدير والتحديد، وعن أن يحويه شيء، أو يحدث له صفة، تعالى الله عمّا يصفون وعمّا يقولون عُلوّاً كبيراً.
فإن قيل: ففي الصحيحين(1) من حديث شريك بن أبي نمر، عن أنس (رضي الله عنه): أنّه ذكر المعراج، وفيه: (فعلا بي الجبّار تعالى، فقال وهو في مكانه: ياربّ خفّف عنّا) الحديث.
فالجواب: أنّ الحافظ أبا سليمان الخطابي قال: إنّ هذه لفظة تفرّد بها شريك، ولم يذكرها غيره، وهو كثير التفرّد بمناكير الالفاظ.
والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى، إنّما هو مكان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مقامه الاوّل الذي أُقيم فيه.
وفي الحديث: (فأستأذن على ربّي وهو في داره)(2) .
____________
(1) صحيح البخاري: 6 / 2732 ح 7079 كتاب التوحيد، وفي طبعة رقم 6963 صحيح مسلم: كتاب الايمان رقم 234 و235 و236 والصلاة 607.
(2) رواه البخاري لاحظ فتح الباري 13/422.
يوهم مكاناً، وإنّما المعنى في داره التي دوّرها لاوليائه.
وقد قال القاضي أبو يعلى في كتابه «المعتمد»: إنّ الله سبحانه وتعالى وتقدّس لا يوصف بمكان.
فإن قيل: يلزم من كلامكم نفي الجهات، ونفيها يحيل وجوده.
فالجواب: أنّ هذا السؤال ساقط فيه تمويه على الاغبياء، يجرون الجهات المتعلّقة بالادميّين بالنسبة الى الله عزّ وجلّ عن ذلك.
وأيضاً إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فمسلم، فأمّا اذا لم يقبلهما فليس خُلوّه من طرفي النقيض بمحال.
ويوضّح هذا: أنّك لو قلت: كلّ موجود لا يخلو أن يكون عالماً أو جاهلاً.
قلنا: إنْ كان ذلك الموجود يقبل الضدّين فنعم، فأمّا إذا لم يقبلهما كالحائط ـ مثلاً ـ فإنّه لا يقبل العلم ولا الجهل.
________________________________________
ونحن ننزّه الذي ليس كمثله شيء ـ سبحانه وتعالى ـ كما نَزَّهَ نفسه عن كلّ ما يدلّ على الحَدَث، وما ليس كمثله شيء لا يتصوره وهم، ولا يتخيّله خيال، والتصوّر والخيال إنّما هما من نتائج المحسوسات والمخلوقات تعالى عن ذلك.
ومن هنا وقع الغلط واستدراج العدوّ، فأهلك خلقاً، وقد تنبّه خلق لهذه الغائلة فسلّموا، وصرفوا عنه عقولهم الى تنزيهه سبحانه وتعالى فسَلِموا.
[مجموعة من الاحاديث المتشابهة]
ومن الاحاديث التي يحتجّون بها حديث عبدالرحمن بن عائش(1) ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّه قال: «رأيت ربّي في أحسن صورة، فقال لي: فيم يختصم الملا الاعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم ياربّ فوضع كفّيه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السموات وما في الارض»(2) .
وهذا الحديث قال الامام أحمد فيه: إنّ طرقه مضطربة، وقال الدارقطني: كلّ أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح، وقال البيهقي: رُوي من أوجُه كلّها ضعيفة.
وأحسن طرقه يدلّ على أنّ ذلك كان في النوم، ويدلّ على ذلك أنّه رُوي من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)، أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال:(3) (أتاني آت في أحسن صورة، فقال: فيم يختصم الملا الاعلى؟ قلت: لا أدري، فوضع كفّيه بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي، فعرفت كلّ شيء يسألني عنه).
وروي من حديث ثوبان (رضي الله عنه) قال(4) : (خرج علينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد صلاة
____________
(1) سنن الدارمي: 2 / 126، مسند أحمد: 4 / 66 و5 / 378.
(2) سنن الترمذي 5/369، تاريخ بغداد 8/152، والطبراني في الكبير 1/317، وابن الجوزي في الموضوعات 1/125، واللالىء المصنوعة 1/31، وسير أعلام النبلاء 10/113، وقال: وهو خبر منكر. وانظر الاسماء والصفات للبيهقي ص30 ودفع شبه التشبيه لابن الجوزي ص148.
(3) كنز العمال: 15 / 897 ح 43544 عن ابن عبّاس، و15 / 898 ح 43545 عن معاذ، و16 / 245 ح44321 عن أنس.
(4) نفس المصدر السابق.
________________________________________
الصبح، فقال: إنّ ربّي أتاني الليلة في أحسن صورة، فقال لي: يا محمّد فيم يختصم الملا الاعلى؟ قلت لا أعلم ياربّ، فوضع كفّه بين كتفي حتّى وجدت برد أنامله في صدري، فتجلى لي ما بين السماء والارض)(1) .
ورُوي من وجوه كثيرة، فهي أحاديث مختلفة، وليس فيها ما يثبت.
مع أنّ عبدالرحمن لم يسمعه من النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).
وعلى وجه التنزّل فالمعنى راجع الى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالمعنى رأيته على أحسن صفاته ; أي من الاقبال والرضا ونحو ذلك ; لانّ الصورة يعبّر بها ويراد الصفة.
كما في حديث (خلق الله آدم على صورته)(2) .
تقول: هذه صورة هذا الامر ; أي صفته، فيكون المعنى خلق الله آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والارادة.
مع أنّ هذا الحديث فيه علل:
منها: أنّ الثوري والاعمش كانا يدلِّسان ولم يذكرا أنّهما سمعا الحديث من حبيب بن أبي ثابت.
ومنها: أنّ حبيباً كان يدلّس، ولم يعلم أنّه سمعه من عطاء.
وهذا كلّه يوجب وهناً في الحديث.
ومع ذلك فالضمير يصحّ عوده الى آدم (عليه السلام)، فالمعنى أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ خلق
____________
(1) في مجمع الزوائد 7/177 عن البزار في كشف الاستار 3/13 رقم 2128.
(2) البخاري: كما في فتح الباري 11/3، صحيح مسلم 4/2017 رقم 115، وانظر مسند أحمد 2/434، وفتح الباري 5/183، وانظر دفع شبه التشبيه لابن الجوزي ص146.
آدم على صورته التي خلقه عليها ; تامّاً لم ينقله من نطفة الى علقة كبنيه.
قال الامام أبو سليمان الخطابي: وذكره تغلب في أماليه.
وقيل: إنّ الضمير يعود الى بعض بني آدم.
وخَلْق من العلماء سكتوا عن تفسير هذا الحديث.
فالمشبِّه لامُتمسَّك له بهذه الاحاديث لما ذكرناه، وتمسّكه بها يدلّ على جهله وزندقته عافانا الله ـ عزّ وجلّ ـ من ذلك.
ومن ذلك حديث القَدَم: (لا تزال جهنّم تقول: هل من مزيد ; حتّى يضع ربّ العزّة فيها قدمه) الحديث(1) .
________________________________________
وهذا يرجع الى الُمحْكم، قال الله تعالى: (وبَشّر الذّين آمنوا أنَّ لهم قَدَمَ صِدق عند ربِّهم)(2) .
وقال الحسن البصري: القدم في الحديث هم الذين قدّمهم الله من شرار خلقه وأثبتهم لها.
وقال البيهقي: عن النضر بن شميل: القدم هنا الكفّار الذين سبق في علم الله أنّهم من أهل النار.
وقال الازهري: القدم الذين تقدّم القول بتخليدهم في النار.
وقال ابن الاعرابي: القدم المتقدّم، وكلّ قادم عليها يسمى قدماً، والقدم جمع قادم، كما يقال: عيب وعائب.
____________
(1) البخاري: كما في، فتح الباري 8/594، وصحيح مسلم 4/2188، وانظر دفع شبه التشبيه ص170.
(2) سورة يونس: 2.
وروى الدارقطني: (حتّى يضع قدمه أو رِجله) وفي هذه دلالة على تغيير الرواية بالظنّ.
مع أنّ الرِّجْل في اللغة هي الجماعة ; ألا تراهم يقولون: رجل من جراد، فيكون المعنى يدخلها جماعة يُشبهون الجراد في الكثرة.
قال ابن عقيل: تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الامكنة، وهذا عين التجسيم، وليس الحقّ بذي أجزاء وأبعاض، فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن المكوّن تعالى الله عن تخايل الجسمية.
وذكر كلاماً مُطوّلاً بالغاً في التنزيه وتعظيم الله تعالى.
وقد تمسّك بهذا الحديث ابن حامد المشبّه، فأثبت لله سبحانه وتعالى صفات.
وزاد، فروى من حديث ابن عباس (رضي الله عنه) أنّه (عليه السلام) قال: (لمّا اُسري بي رأيت الرحمن على صورة شابّ أمرد نوره يتلالا، وقد نُهيتُ عن صفته لكم، فسألت ربّي أن يُكرمني بُرؤيته، فإذا كأنّه عروس حين كشف عنه حجابه مستو على عرشه).
وهذا من وضعه وافترائه وجرأته على الله ـ عزّ وجلّ ـ وعلى رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم).
ومَنْ أعظم فريةً مّمن شبّه الله ـ عزّ وجلّ ـ بأمرد وعروس ؟
________________________________________
وكان بعض أئمة الحنابلة يتوجّع، ويقول: ليت ابن حامد هذا ومن ضاهاه لم ينسبوا الى أنّهم من أتباع الامام أحمد، فقد أدخلوا بأقوالهم المفتراة الشينَ على المذهب، والتعرّض الى الامام أحمد بالتشبيه والتجسيم، وحاشاه من ذلك، بل هو من أعظم المنزّهة لله عزّ وجلّ، وقد خاب من افترى.
وقال بعض أئمة الحنابلة المنزِّهين: مَنْ أثبت لله تعالى هذه الصفات بالمعنى
المحسوس، فما عنده من الاسلام خبر. تقدّس الله ـ عزّ وجلّ ـ عمّا يقولون عُلوّاً كبيراً.
وخوضهم في ذلك كلام من لا يعرف الله عزّ وجلّ.
وكذا خوضهم في الاحاديث خوض من لايعرف كلام الله تعالى ولا كلام أهل اللغة، فيُجرونها على المتعارف عند الخلق، فيقعون في الكفر.
ونوضّح ذلك إيضاحاً مُبيناً يدركه أبلد العوامّ، فضلاً عن أذكياء الطلبة والعلماء الاخيار، الذين جعل الله ـ عزّ وجلّ ـ قلوبهم معادن المعاني المرادة وكنوزها.
فمن ذلك ما في الصحيحين(1) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) في حديث الضيف، فيه: (لقد عجب الله من صنيعكما الليلة).
وفي أفراد البخاري(2) من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه): (عجب ربّك من قوم جيء بهم في السلاسل حتّى يُدخلهم الجنّة).
قال ابن الانباري: معنى «عجب ربّك» زادهم إنعاماً وإحساناً فعبّر بالعجب عن ذلك.
قال الائمة: لانّ العجب إنّما يكون من شيء يدهم الانسان، فيستعظمه ممّا لا
____________
(1) بهذا اللفظ في صحيح مسلم في الاشربة رقم 3830 وأنظر رقم 3829، وفي البخاري كتاب المناقب رقم 3514 بفظ: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما، ومثله في تفسير القرآن رقم 4510، وانظر شرح النووي لمسلم 14/12، وفتح الباري لان حجر 7/119، وسنن الترمذي 5/409 رقم 3304، وعارضه الاحوذي 12/190.
(2) رواه البخاري في الجهاد والسير رقم 2788، بلفظ: «من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» وهو في أبي داود، الجهاد رقم 2302، ومسند أحمد بلفظ: عجب ربنا.
________________________________________
يعلمه، وذلك إنّما يكون في المخلوق، وأمّا الخالق فلا يليق به ذلك، فمعناه عظم قدر ذلك الشيء عنده ; لانّ المتعجّب من الشيء يعظم قدره عنده.
فالمعنى في حديث الضيف: عظم قدره وقدر زوجته عنده حتّى نوّه بذكرهما في أعظم كتبه، وعظم قدر المجيء بهم في السلاسل حتّى أدخلهم الجنّة، وجعلهم من أوليائه وأنصار دينه.
ومن ذلك حديث: (لَلّهُ أفرح بتوبة عبده)(1) ، ومعناه أرضى بها.
ومنه(2) قوله (كُلُّ حِزب بما لديهم فرحون)(3) ; أي راضون، ونحو ذلك مما هو كثير في القرآن، وكذا الاحاديث:
ومنها حديث النزول.
وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (ينزل ربّنا كلّ ليلة الى السماء الدنيا حين يبقى ثُلُث الليل الاخر ; يقول: من يدعوني فأستجب له….) الى آخره.
وهذا الحديث رواه عشرون نفساً من الصحابة رضي الله عنهم.
وقد تقدّم أنّه يستحيل على الله ـ عزّ وجلّ ـ الحركة والتنقل والتغيّر، لانّ ذلك من صفات الحدث، فمن قال ذلك في حقّه تعالى فقد ألحقه بالمخلوق، وذلك كفر صريح لمخالفة القرآن في تنزيهه لنفسه سبحانه وتعالى.
____________
(1) مسلم 8 / 91 كتاب التوبة.
(2) أي من هذا الاستعمال ا هـ مصححه.
(3) سورة المؤمنون: 53.
ومن العجب العجيب أن يقرأ أحدهم قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد) مع أنّ معدنه في الارض.
وقوله تعالى: (وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج) .
فيالله العجب، من شخص لم يعرف نزول الجمل، كيف يتكلّم في تفصيلها.
وقد قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب) .
وقال تعالى: (قد أنزل الله إليكم ذِكراً) ، فنسب الانزال الى هاتين الغايتين إليه سبحانه وتعالى.
وقد قال تعالى: (مَن يُضلل اللهُ) أي ببدعته (فلا هادي له ونذرهم في طغيانهم يعمهون) ،والعَمَهُ في البصيرة، كما أنّ العمى في البصر، والعَمَه في البصيرة منه الهلكة أعاذنا الله من ذلك.
________________________________________
وروى أبو عيسى الترمذي عن مالك بن أنس وسفيان بن عُيينة وابن المبارك: أنّهم قالوا: أمّروا هذه الاحاديث بلا كيف(1) .
قال الائمة: فواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النُّقلة والحركة.
فإنّ النزول ـ الذي هو انتقال من مكان الى آخر ـ يفتقر الى الجسمية والمكان العالي والمكان السافل ضرورة.
كما في قوله تعالى: (يخافون ربّهم من فوقهم) فإنّ الفوقية باعتبار المكان لا تكون بالضرورة إلاّ في الاجرام والاجسام مركّبة كانت أو بسيطة، والربّ ـ سبحانه وتعالى ـ منزَّه عن ذلك، إذ هو من صفات الحدث.
____________
(1) سنن الترمذي 2/87 ذيل حديث 0659 و4/692، وقال: وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن يروي هذه الاشياء كما جاءت ونؤمن بها ولا تفسّر ولا تتوهّم ولا يقال: كيف.
وقال ابن حامد الراسم نفسه بالحنبلي: هو فوق العرش بذاته، وينزل من مكانه الذي هو فيه، فينزل وينتقل.
ولمّا سمع تلميذه القاضي منه هذا استبشعه، فقال: النزول صفة ذاتية، ولا نقول: نزوله انتقال.
أراد أنْ يغالط الاغبياء بذلك.
وقال غيره: يتحرّك إذا نزل.
وحكوا هذه المقالة عن الامام أحمد، فجوراً منهم، بل هو كذب محض على السيد الجليل السلفي المنزّه.
فإنّ النزول إذا كان صفة لذاته لزم تجدّدها كلّ ليلة وتعدّدها، والاجماع منعقد على أنّ صفاته قديمة، فلا تجدّد ولا تعدّد تعالى الله عمّا يصفون.
وقد بالغ في الكفر من ألحق صفة الحقّ بالخلق، وأدرج نفسه في جريدة السامرة واليهود الذين هم أشدّ عداوة للذين آمنوا.
ومنها: حديث الاصابع.
وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود (رضي الله عنه)قال: (جاء حَبْر الى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمّد إنّ الله يضع السماء على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والانهار على أصبع، وسائر الخلق على أصبع ـ وفي لفظ ـ والماء والثرى على أصبع، ثمّ يهزّهنّ.
________________________________________
فضحك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: (وما قَدَروا الله حَقَّ قَدره) وفي لفظ: (فضحك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) تعجّباً وتصديقاً له)(1) .
____________
(1) صحيح البخاري 6/33، وانظر 8/174 و187 و202 ـ دار الفكر ـ، وفتح الباري 13/393 و398، وصحيح مسلم 8/25 ـ دار الفكر ـ.
قال الائمة ـ منهم أبو سليمان الخطابي ـ: لا نثبت لله صفة إلاّ بالكتاب، أو خبر مقطوع بصحّته مستند الى أصل في الكتاب أو السُّنّة المقطوع بصحّتها(1) ، وما كان بخلاف ذلك فالواجب التوقّف عن إطلاق ذلك، ويتأوَّل على ما يليق بمعاني الاُصول المتّفق عليها من أقوال أهل العلم مع نفي التشبيه.
وقال غيره: قد نفى الله تعالى التشبيه عنه في قوله تعالى:(وما قدروا الله حقّ قدره والارض جميعاً قبضته يومَ القيامةِ والسمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ سُبحانه وتعالى) دفعاً لما يتبادر إليه الفهم باعتبار المحسوسات.
قال الائمة: معناه ما عرفوه حقّ معرفته.
وقال المبّرد: ما عظّموه حقّ عظمته.
وقبضة الله ـ عزّوجلّ ـ عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته.
واليمين ـ في كلام العرب ـ بمعنى الملك والقدرة، كما قال تعالى: (لاخذنا منه باليمين) أي بالقوة والقدرة.
وأشعار العرب في ذلك أكثر جدّاً من أن تُذكر، وأشهر من أن تُنشد وتُبرز وتُظهر.
وفي الحديث (الحجرُ الاسودُ يمينُ الله تعالى).
وقال تعالى (يدُ الله فوق أيديهم) .
وقال أبو الوفاء بن عقيل ـ من أصحاب الامام أحمد ـ: (ما قدروا الله حقّ قدره)
____________
(1) لو لاحظ المتكلمون في هذه المواضيع هذا الاصل لاستراحوا وأراحوا أنتهى. مصحِّحه.
إذ جعلوا صفاته تتساعد وتتعاضد على حمل مخلوقاته، وإنّما ذكر الشرك في الاية ردّاً عليهم.
وفي معنى هذا الحديث قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يُقلّبها كيف شاء)(1) .
وفي ذلك إشارة الى أنّ القلوب مقهورة لمُقلِّبها.
________________________________________
قال الخطابي: واليهود مشبّهة، ونزول الاية دليل على إنكار الرسول عليهم، ولهذا ضحك(صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه الانكار.
وليس معنى الاصابع معنى الجارحة لعدم ثبوته، بل يُطلق الاسم في ذلك على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه !
وقال غيره من حمل الاصابع على الجارحة فقد ردّ على الله ـ سبحانه وتعالى ـ في قوله: (سبحانه) وأدخل نفسه في أهل الشرك ; لقوله تعالى: (سبحانه وتعالى عمَّا يشركون) .
وهو ـ عزّ وجلّ ـ يذكر في كتابه المبين التحرّس عمّا لا يليق ; دفعاً وردّاً لاعدائه، كقوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله ولداً، سبحانه) وقال تعالى: (وخَرقوا له بَنين وبنات بغير علم، سبحانه) ونحو ذلك، وآكد من ذلك قوله: (وأنّه تعالى جدُّ ربِّنا ما اتخذ صاحبةً ولا ولداً) قدّم تنزيهه ـ عزّ وجلّ ـ أوّلاً في هذه الاية.
والقرآن طافح بذلك.
ومنها: ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (لمّا قضى
____________
(1) رواه مسلم 4/2045 رقم 17، ومسند أحمد 2/168، والترمذي 4/449 برقم 2141، ومستدرك الحاكم 2/288.
الله الخلق كتب في كتاب، فهو عنده فوق العرش: أنّ رحمتي غلبت غضبي) وفي لفظ: «سبقت».
قال القاضي المشبِّه ـ تلميذ ابن حامد ـ: ظاهر قوله: «عنده» التقرب من الذات.
وما قاله يستدعي القرب والمساحة، وذلك من صفات الاجسام، وقد عمي عن قوله تعالى: (مسومة عند ربِّكَ) .
ومن المعلوم أنّك تقول: عندي فوق الغرفة كتاب كذا، وهو في موضع شاسع نازل عن الغرفة بمسافة بعيدة.
ثمّ إنّ هذا القاضي روى عن الشعبي أنّه قال: إنّ الله قد ملا العرش حتّى أنّ له أطيطاً كأطيط الرَّحْل، وهو كذب على الشعبي(1) .
وقال بعضهم: (ثم استوى على العرش) قعد عليه.
وقال ابن الزاغوني: خرج عن الاستواء بأربع أصابع(2) .
ولهم ولاتباعهم مثل ذلك خبائث كلّها صريحة في التشبيه والتجسيم، لا سيما في مسألة الاستواء.
________________________________________
وهو ـ سبحانه وتعالى ـ متنزه عمّا لا يليق به من صفات الحَدَث.
ثمّ إنّ هؤلاء الجمادات وأعالي الجهلة، يلزمهم أن يقولوا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره ما لم يمكن القول به من أجهل الناس: (ولا يزال عبدي يتقرّب اليّ بالنوافل حتّى أُحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به،
____________
(1) دفع شبه التشبيه ص249.
(2) دفع شبه التشبيه ص248.
ويده التي يَبطش بها، ورجله التي يمشي بها…) الى آخره.
وبالضرورة لا يكون سبحانه جارحةً لعبده، ومع هذا يلزم التعدّد بحسب المتقرّبين والتجزئة والتفرقة، وغير ذلك مّما لا يقوله حمار، بل ولا جماد، تعالى الله وتقدّس عن ذلك.
قال ابن الجوزي: وهؤلاء وأتباعهم جهلوا معرفة ما يجوز على الله وما يستحيل عليه.
ومن أعجب ما رأيت لهم، ما ذكروا عن ابن أبي شيبة أنّه قال في كتاب العرش: إنّ الله قد أخبرنا: أنّه صار من الارض الى السماء، ومن السماء الى العرش، فاستوى على العرش.
ثمّ قال: ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا، فعابنا الناس بكلامهم.
ولو فهموا أنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يوصف بما يوصف به الخلق، لما بنوا أمورهم وقواعدهم على المحسوسات التي بها المساواة بينه وبين خلقه، وفي ذلك تكذيبه في تنزيهِهِ وتقديسِهِ نفسَهُ عزّ وجلّ.
وقال أبو الوفاء بن عقيل: تحسب الجهلة أنّ الكمال في نسبة النقائص إليه فيما نزّه نفسه عنه عزّ وجلّ، والذي أوقعهم في ذلك القياسُ المظنون، وكيف يكون له حكم الدليل وقد قضى عليه دليل العقل بالردّ؟!
[اختلاف الناس في هذه الاخبار]
قال أبو الفرج بن الجوزي: والناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب:
إحداها: إمرارها على ماجاءت من غير تفسير ولا تأويل إلاّ أن تقع ضرورة،
كقوله تعالى: (وجاء ربُّكَ) أي جاء أمره، وهذا مذهب السلف.
المرتبة الثانية: التأويل وهو مقام خطر.
________________________________________
المرتبة الثالثة: القول فيها بمقتضى الحسّ، وقد عمّ جهله الناقلين ; إذ ليس لهم علوم المعقولات التي بها يعرف ما يجوز على الله ـ عزّ وجلّ ـ وما يستحيل.
فإنّ علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه، فإذ عدموها تصرّفوا في النقل بمقتضى الحسّ.
ولو فهموا أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا جارحة ولا تغير، لما بقوا على الحسّيات التي فيها عين التشبيه وهو كفر بالقرآن أعاذنا الله من ذلك.
ولا شكّ أنّ مذهب السكوت أسلم وقد ندم خلق من أكابر المتكلّمين على الخوض في ذلك.
قال أبو المعالي الجويني في آخر عمره: «خليتُ أهل الاسلام وعلومهم، وركبتُ البحر الاعظم، وغُصْتُ في الذي نهوا عنه، والان رجعتُ الى قولهم: عليكم بدين العجائز، فإن لم يُدركني الحقّ بلطفه وأموت على دين العجائز، وإلاّ فالويل لابن الجويني».
قال أبو الوفاء بن عقيل: معنى دين العجائز أنّ المدقّقين بالغوا في البحث والنظر، ولم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليل، فوقفوا مع المراسم واستطرحوا، وقالوا: لاندري.
وسئل الامام أحمد ـ قدس الله روحه ـ عن الاستواء، فقال «هو كما أخبر، لا كما يخطر بالبشر».
فانظر ـ وفقك الله وارشدك الى الحقّ ـ الى هذه العبارة ما أرشقها وعلى اتباعه
ما أشققها(1) ، اعتقاد قويم ومنهاج سليم.
____________
(1) لعله «ماأشقها» بحذف إحدى القافين، أو بإبدال إحداهما فاء. انتهى.مصحِّحه.
[اتهام الامام أحمد بالتجسيم]
قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي ـ واسمه عبدالرحمن بن علي ـ: لمّا رأى الحُسّاد للامام أحمد ما حصل له من الرفعة ونفاسة مذهبه ; لتشييده بالكتاب والسُّنّة، انتموا الى مذهبه ليُدخلوا عليه النقص والخلل وصرف الناس عنه ; حسداً من أنفسهم، فصرّحوا بالتشبيه والتجسيم، ولم يستحيوا من الخبير العليم، ونسبوه إليه افتراء عليه.
ومن نظمه في ذلك:
ولمّا نظرتُ في المذاهبِ كلّها … طلبتُ الاسدَّ في الصواب وماأغلو
________________________________________
فألفيتُ عند السير قول ابن حنبل … يزيد على كلّ المذاهب بل يعلو
وكلّ الذي قد قاله فمشيَّد … بنقل صحيح والحديث هو الاصلُ
وكان بنقل العلم أعرف من روى … بِقوم من السادات ما شانهم عظم(1)
ومذهبه أن لا يشبّه ربّه … ويتبع في التسليم من قد مضى قبلُ
____________
(1) الشطر الثاني، لم يرد في المطبوعة في مصر، وأخذناه من المصدر.
يشير الى صاحبه الامام الشافعي وغيره من علماء السلف كما أذكر.
قام له الحُسّاد من كلّ جانب … فقام على رِجْل الثبات وهم زلّوا
كان له أتباعُ صدق تتابعوا … فكم أرشدوا نحو الهدى وَلَكم دلّوا
جاءك قوم يدّعون تمذهباً … بمذهبه ما كلّ زرع له أُكلُ
مالوا الى التشبيه أخذاً بصورة الـ … ـذي نقلوه في الصفات وهم غُفلُ
قالوا: الذي قلناهُ مذهبُ أحمد … فمال الى تصديقهم من به جهلُ
صار الاعادي قائلين لكلّنا: … مشبِّهة قد ضرّنا الصحبُ والخلُّ
قد فضحوا ذاك الامام لجهلهم … ومذهبُهُ التنزيهُ لكن هُمُ اختلّوا
َعمري لقد أدركتُ منهم مشايخاً … وأكثر ما أدركته ماله عقلُ(1)
وحذفت أبياتاً من هذه القصيدة ; لانّي في هذه الورقات على سبيل الاقتصاد والرمز الى منهج الحقّ والرشاد.
[كلام الامام الشافعي وأبي حنيفة ومالك، في التأويل]
وسُئل الامام الشافعي ـ قدّس الله روحه ـ عن الاستواء ؟ فقال: «آمنتُ بلا تشبيه، وصدّقت بلا تمثيل، واتهمتُ نفسي في الادراك، وأمسكتُ عن الخوض فيه كلّ الامساك».
وهذا شأن الائمّة، يُمسكون أعنّة الخوض في هذا الشأن، مع أنّهم أعلم الناس به، ولا يخوض فيه إلاّ أجهل الناس به.
وسئل الامام أبو حنيفة ـ قدّس الله روحه ـ عن ذلك ؟ فقال: «من قال: لا أعرف الله أفي السماء أم في الارض فقد كفر ; لانّ هذا القول يؤذن أنّ لله سبحانه وتعالى مكاناً، ومن توهّم أنّ لله مكاناً فهو مُشبِّه».
________________________________________
وسئل الامام مالك عن الاستواء ؟ فقال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والايمان به واجب، والسؤال عنه بِدعة».
فنفى العلم بالكيف، فمن استدلّ بكلامه على أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ فوق عرشه، فهو لجهله وسوء فهمه.
____________
(1) أورد القصيدة كاملة ابن الجوزي في (دفع شبه التشبيه) ص275 ـ 277.
وقال الامام مالك عند قوله: (فلا تَضربوا لله الامثالَ) من وصف شيئاً من ذاته سبحانه وتعالى، مثل قوله تعالى: (قالتِ اليهودُ يدُ الله مغلولةٌ غُلّت أيديهم) (فأشار بيده الى عنقه) قُطعت، وكذا السمع والبصر يقطع ذلك منه ; لانّه شبّه الله بنفسه.
وقال مالك (رضي الله عنه): «الاستواء معلوم» يعني عند أهل اللغة.
وقوله: «والكيف مجهول» أي بالنسبة الى الله عزّ وجلّ ; لانّ الكيف من صفات الحدث، وكلّ ما كان من صفات الحدث فالله ـ عزّ وجلّ ـ مُنزّه عنه، فإثباته له سبحانه كفر محقّق عند جميع أهل السُّنة والجماعة.
وقوله: «والايمان به واجب» أي على الوجه اللائق بعظمته وكبريائه.
وقوله: «والسؤال عنه بِدعة» لانّ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا عالمين به وبمعناه اللائق بحسب اللغة، فلم يحتاجوا الى السؤال عنه فلّما ذهب العالمون به، وحدث من لم يعلم أوضاع لغتهم، ولا له نور كنورهم، شرع يسأل الجهلة بما يجوز على الله عزّ وجلّ، وفرح بذلك أهل الزيغ، فشرعوا يُدخلون الشُّبَهَ على الناس، ولذلك تعّين على أهل العلم أن يبيَّنوا للناس، وأن لا يهملوا البيان ; لقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذينَ أُتوا الكتابَ لتبيِّنُّنَه للنَّاس ولا تكتُمُونهُ) .
فهذه(1) الائمّة التي(2) مدار الامّة عليهم في دينهم، متّفقون في العقيدة، فمن زعم أنّ بينهم اختلافاً في ذلك، فقد افترى على أئمّة الاسلام والمسلمين، والله حسبه، وسيجزي الله المفترين.
____________
(1) لعله فهؤلاء انتهى.مصححه.
(2) لعله الذين انتهى. مصححه.
________________________________________
وفي الصحيحين من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما: أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من فارق الجماعة شبراً فمات، مات ميتةً جاهليّة).
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الشيطان ذئب الانسان كذئب الغنم ; يأخذ القاصية والنافرة والشاذّة، إياكم والشِّعاب، وعليكم بالعامّة والجماعة والمساجد). رواه الطبراني وغيره من حديث معاذ (رضي الله عنه)، ورواه الامام أحمد، ورجاله ثقات(1) .
وسُئل الامام أحمد عن الشافعي ؟ فقال: «ماالذي أقول فيه، وهو الذي أخرج من قشور التشبيه لبابها، وأطلع على معارفها أربابها، وجمع مذهبه أكنافها وأطنابها، فالمحدّثون صيادلة والشافعي طبيبهم، والفقهاء أكابر والشافعي كبيرهم، وما وضع أحد قلمه في محبرة إلاّ وللشافعي عليه منّة».
وكان كثير الدعاء للشافعي، قال له ابنه عبدالله: أيَّ شيء كان الشافعي، فإنّي أسمعك تُكثر الدعاء له؟ قال: «يابُنيّ كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض؟».
[كلام السلف في التأويل]
وسئل بعض أئمّة السلف عن قوله تعالى (الرحمن على العرشِ استوى) ؟
فقال: الرحمن ـ جلّ وعلا ـ لم يزل والعرش مُحدَث بالرحمن استوى، ثمّ قال: كلّ ما ميّزتموه بأذهانكم وأدركتموه في أتمّ عقولكم، فهو مصروف إليكم ومردود عليكم، محدث ومصنوع مثلكم ; لانّ حقيقته عالية عن أن تلحقه عبارة، أو يدركه وهم،أو يُحيط به علم، كلاّ، كيف يُحيط به علم وقد اتّفق فيه الاضداد بقوله سبحانه
____________
(1) في مجمع الزوائد للهيثمي 2/23 عن أحمد وفي 5/219 عن أحمد والطبراني، وكنز العمال 1/206 رقم 1026 و1027 و7/581 رقم 20355.
وتعالى: (هو الاوّل والاخرُ والظَّاهر والباطنُ) ؟!
أيّ عبارة تُخبر عنه؟! حقيقة الالفاظ كلام، قصرت عنه العبارات،وخرست عنه الالسنة بقوله: (ليس كمثله شيء) تعالى الله وتقدّس عن المجانسة والمماثلة.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الاية: معناها ليس له نظير.
________________________________________
وقال أهل التحقيق: ذكر العرش إظهاراً لقدرته، لا مكاناً لذاته ; إذ الذات ممتنعة عن الاحاطة بها والوقوف عليها، كما أشار الى ذلك في قوله تعالى: (الله لا إله إلاّ هو ربُّ العرشِ العظيم) .
فسبحانه هو المنزّه عن الشبيه، القدّوس المبرّأ عن الافات، والمُسبَّح بجميع اللغات، السلام السالم من نقائص المخلوقات،الصمد السيّد الذي لا يُشبهه شيء من المصنوعات والمخلوقات، الغنيّ عن الاغيار، تبارك وتعالى عن أن تحويه الجهات، الفرد الذي لا نظير له، المنفرد بصفات الكمال والقدرة، ومن بعض مقدوراته الكرسيّ والعرش والارضون والسموات، شهد لنفسه بالوحدانية، ونزّهها بالايات البيّنات، فصفاته لا يوصف بها غيره.
ومن تعرّض لذلك فقد طعن في كلامه، وضاهى أهل العناد، فاستوجب اللعن وأشدّ العقوبات.
[قول البغدادين في التأويل]
قال البغداديّون في قوله تعالى: (بديع السمواتِ والارضِ وإذا قضى أمراً فإنّما يقولُ له كن فيكونُ)(1) : كلّ صُنع صنعه ولا علّة لصنعته، ليس لذاته مكان ;
____________
(1) البقرة: 117.
لانّه قبل الكون والمكان، وأوجد الاكوان بقوله: (كُنْ) أزال العلل عن ذاته بالدرك(1) وبالعبارة عنه وبالاشارة، فلا يبلغ أحد شيئاً من كنه معرفته ; لانّه لا يعلم أحد ما هو إلاّ هو، حيّ قيّوم لا أوّل لحياته، ولا أمد لبقائه، احتجب عن العقول والافهام، كما احتجب عن الابصار فعجز العقل عن الدرك، والدرك عن الاستنباط،وانتهى المخلوق الى مثله، وأسنده الطلب الى شكله. انتهى.
وقولهم: «كلّ صنع» عبّروا بالمصدر عن اسم المفعول، كقوله تعالى: (هذا خلقُ الله)(2) .
ومن الجهل البيّن أن يطلب العبد المقهور بـ «كُنْ» درك ما لا يُدرك، كيف ؟ وقد تنزّه عن أن يُدرك بالحواسّ، أو يتصوّر بالعقل الحادث والقياس، مَنْ لا يدركه العقل من جهة التمثيل، ويُدركه من جهة الدليل.
________________________________________
فكلّ ما يتوهّمه العقل لنفسه فهو جسم، وله نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه، مع ما يلزمه من الحدود والمساحة ; من الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث، تعالى عن ذلك.
فهوالكائن قبل الزمانوالمكان، وهوالاوّل قبل سوابق العدم،الابدي بعد لواحق القِدَم، ليس كذاته ذات، ولا كصفاته صفات، جلّت ذاته القديمة ـ التي لم تُسبق بعدم ـ أن يكون لها صفة حادثة،كما يستحيل أن يكون للذات الحادثة صفة قديمة.
قال تعالى: (أولا يذكُرُ الانسانُ أنَّا خلقناهُ مِنْ قبلُ ولم يكُ شيئاً)(3) .
____________
(1) قوله «بالدرك» متعلق بمحذوف فيما يظهر، تقديره: وأعجز الخلقَ عن أن يحيطوا به بالدرك… الى آخره. والدرك: الادراك. انتهى مصحّحه.
(2) لقمان: 11.
(1) مريم: 37.
[كلام يحيى بن معاذ في التأويل]
وسأل بعض المخبثين(2) الطوية للامام العالم العلامة الجامع بين العلوم السَّنّية والمناهج العَلِية ; يحيى بن معاذ الرازي، فقال له: أخبرنا عن الله؟ فقال: إله واحد. فقال له كيف هو؟ قال: إله قادر. قال: فأين هو؟ قال: بالمرصاد.
فقال السائل: لم أسألك عن هذا. فقال: ما كان غير هذا فهو صفة المخلوق، فأمّا صفته فالذي أخبرتك عنه.
فالسائل سأل عن الذات والكيفية، فأجابه هذا الحَبْر بالصفات الجلاليّة القُدسيّة.
وهذا أخذه من قصة سيّدنا موسى (عليه السلام) مع فرعون اللعين لمّا قال له موسى (عليه السلام): (إنّي رسول ربِّ العالمينَ) فسأله فرعون (وما ربُّ العالمينَ)(3) فقال موسى (ربُّ السمواتِ والارضِ وما بينهما إنْ كنتم موقنين)(4) .
____________
(2) لعله «خبيثي…» الى آخره، وقوله «للامام» لعلّ اللام الاولى من تصّرفات النُّساخ، وهذا ظنّنا في كلّ ما تقدّم أو يجيء في هذا الكتاب من الالفاظ التي تخالف اللغة ; لانّ الامام الحصني أجلّ من أن يخفى عليه مثل ذلك. انتهى. مصحّحه.
(3) الزخرف: 46.
(4) الدخان: 7.
________________________________________
فضمّن الجواب العدول عمّا سأل ; لانّه عدل فيه عن مطابقة السؤال ; لانّ فرعون سأل عن ماهيّته سبحانه وتعالى، وموسى أجابه عن قدرته وصفاته، فجاز له ـ حين خلط في السؤال وأخطأ، وسأل عمّا لا يمكن إدراكه ـ العدولُ عن سؤاله.
فقال فرعون: (ألا تستمعونَ)(1) أنا أسأله عن شيء، فيجيب عن غيره.
فقال موسى (عليه السلام) (ربُّكم وربُّ آبائِكم الاولينَ)(2) .
فلما قال موسى (عليه السلام) ذلك استشعر فرعون أنّه أخطأ في السؤال، فخشي أن يدرك ذلك جلساؤه، فقال: (إنَّ رسولَكُم الذي أُرسل إليكم لمجنونٌ) رماه بذلك حتّى يتخلص ويصير موسى (عليه السلام)في مقام لا يُلتفت الى قوله، ولا يؤخذ به.
فتأمّل ـ أرشدك الله عزّ وجلّ وهداك الى الحقّ ـ كيف أنّ ذلك معلوم عند الانبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وغيرهم عدم العلم بالذات والكيف ؟
فلا أجهل ولا أعمى بصيرة مّمن فرعون أهدى منه في معرفته بالعجز عن درك ذاته !
[قول أهل التحقيق من أهل السنة والجماعة بالتأويل]
قال الامام الحافظ محمّد بن علي الترمذي ـ صاحب التصانيف المشهورة ـ:
____________
(1) الشعراء: 25.
(2) الدخان: 8.
«من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبيّة أجهل».
وقال أهل التحقيق من أهل السُّنّة والجماعة: «من اعتقد في الله ـ عزّ وجلّ ـ ما يليق بطبعه كالعامّي، فهو مشبّه.
فإنّه ـ عزّ وجلّ ـ منزّه عن كلّ ما يصفه الادمي أو يتخيّله ; لانّ ذلك من صفات الحدَث تعالى وتقدّس عن ذلك».
فإيمان العاميّ لضعف علمه وعقله يقبل التشكيك(1) .
[مجموعة من تأويلات ابن عباس]
________________________________________
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلاّ وهم مشركون) : هم الذين شبّهوا الله سبحانه وتعالى بخلقه، يؤمنون به مُجملاً، ويكفرون به مفصّلاً، حملهم على ذلك زُخرفُ العدوّ وإغواؤه، بدسيسة عدم علمهم بغوائل النفس الامّارة بالسوء وعدم تأمّلهم قوله تعالى: (ما أشهدتهم خلق السمواتِ والارضِ ولا خلقَ أنفسِهم)(2) ، وفي ذلك إشارة الى عجز الخليقة أن تدرك بعض صفات ذواتها في ذاتها، أو تدري كيف كُنهها في أنفسها،بعدم شهودهم خلق السموات والارض وخلق أنفسها، فلم تملك أن تحتوي علم أنفسها في أنفسها، فكيف تدري أو تدرك شيئاً من صفات مُوجدها
____________
(1) هذا الكلام ليس على عمومه، فإنّ من العامّة من يندهش العالم لِمبلغ كمال إيمانه بالله عزّ وجلّ، وقد يصدق ذلك في بعض العوامّ الذين لم ينشأوا في حجور أهل الدين، ولم يختلطوا بهم، وهم أندر من الكبريت الاحمر بين طبقات العوّام. انتهى. مصحّحه.
(2) الكهف: 51.
من العدم وبارئها ومالكها؟!
وقال تعالى: (ومن كلِّ شيء خلقنا زوجين)(1) (سُبحانَ الذي خلق الازواج كُلَّها)(2) ، وفي ذلك إشارة ظاهرة الى عجزك عن إدراك كُنه بعض المخلوقات على اختلاف ذواتها وصفاتها، وفي بعضها ما لا يخطر على قلب بشر، فكيف بالخالق الذي نزّه نفسه بقوله تعالى:(ليس كمثله شيء) ؟!
وهو ـ سبحانه وتعالى ـ مباين لخلقه من كلّ وجه لا يسعه غيره ولا يحجبه سواه، تقدّس أن يدركه حادث أو يتخيّله وَهم أو يتصوّره خيال، كل ذلك محال.
________________________________________
فهو الملك القُدّوس المنزّه في ذاته وصفاته عن مشابهة مخلوتاته، وأنت من مخلوقاته ; ركّبك على منوال عجيب، وجعلك في أحسن صورة وأعجب ترتيب، مع تنقّل تارات من ماء مهين، فقال عزّ وجلّ: (ولقد خلقنا الانسانَ من سلالة من طين * ثمَّ جعلناه نطفةً في قرار مكين * ثمّ خلقنا النُّطفةَ علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضفة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثمَّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين)(3) .
الانسان هنا هو آدم (عليه السلام) وسلالته ; لانّه سلّةٌ من كلّ تربة، وكان (عليه السلام) يتكلم بسبعمائة ألف لغة.
____________
(1) الذاريات: 49.
(2) يس: 36.
(3) المؤمنون: 12 ـ 14.
وقوله تعالى: (ثمّ جعلناه) أي الانسان (نطفةً في قرار مكين) أي حرز منيع، وهو الرحم (ثم خلقناه علقةً) أي دماً (فخلقنا العلقة مضغةً) أي قدر ما يُمضغ (فخلقنا المضغة عظاماً) وبين كل خلقتين أربعون يوماً (فكسونا العظام لحماً ثمَّ أنشأناه خلقاً آخر) وهو نفخ الروح فيه.
قاله ابن عبّاس ومجاهد والشعبي وغيرهم.
وقيل: نبات الاسنان والشعر، قاله قتادة.
وقيل: ذكراً أو أنثى، قاله الحسن، وقيل غير ذلك.
(فتبارك الله أحسن الخالقينَ) أي المصوّرين والمقدّرين.
________________________________________
تنزّه سبحانه وتعالى بعد ذكر هذه الاطوار. المعنى: أنّ مَن هذه مِن بعض مقدوراته، يستحقّ التعظيم والتنزيه ; لانّ هذه التارات والتنقّلات إنشاء بعد إنشاء، في غاية الدلالة على كمال القدرة ووصف الالوهية، ثمّ الانشاء الاخر أن شقّ الشقوق وخرق الخروق، وأخرج العصب وجعل العروق كالانهار الجارية، وركّبها على منوال غريب، مع كونه خلقاً سويّاً، فأظهر يد القدرة والايات الظاهرة، وكمال الصنع والحكمة الباهرة، وأودع فيه الروح والحركة والسكون والادراك والتمييز، ولغات الكلام والعلم والمعرفة والفهم والفطنة والفراسة، وغير ذلك مّما يليق بهذا النوع الانساني الحيواني الى غير ذلك مّما يطول عدّه، ويعسر تقديره وحدّه (فتبارك الله أحسنُ الخالقين) .
ولو قيل لك: أخبرني عن قدر عروقك رقّة وثخانة وطولاً وقصراً، أو عن حقيقة بعض ما في باطنك من أي نوع كان، لعجزت عن بيان ذلك ولخرست، وأنت وجميع هذا النوع الانساني نُتفة تراب جعله بشراً منتشراً.
فتعالى الله وتبارك أن يخوض في ذاته وصفاته إلاّ من عَدِم الرشاد، وسلك سبيل الفساد والعناد، وصيّر نفسه أخسّ العباد.
فمن حقّق نظره واستعمل فكره، وجد نفسه أجهل الجاهلين بعظمة هذا العظيم.
فلا يقدّره أحد قدره ولا يعرفه سواه، وإن قرّبه وأدناه فسبحانه ما اثنى عليه حقّ ثنائه غيرُه، ولا وصفه بماغ يليق به سواه عجز الانبياء والمرسلون عن ذلك، قال أجلّهم قدراً وأرفعهم محلاً وأبلغهم نُطقاً، مع ما أُعطي من جوامع الكَلِم: «لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك».
ومن تأمل كلام الله ـ عزّ وجلّ ـ وجده محشواً بتنزيهه تارةً بالتصريح ; وتارة بالتلويح، وتارة بالاشارات، وتارة بما تقصر عنه العبارات.
________________________________________
وهؤلاء(1) العلماءُ ورثة الانبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين قربوا من درجة النبوّة، لانّهم دلّوا الناس على ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلا، ويرجح مدادهم على دم الشهداء، ويستغفر لهم من في السموات والارض حتّى الحيتان في الماء، وهم أمناء الله ـ عزّ وجلّ ـ في أرضه، وأحدهم على الشيطان أشدّ من ألف عابد.
وقد قيل في قوله تعالى: (ربِّ زدني علماً)(2) : أي زدني علماً بالقرآن ومعانيه.
وهؤلاء لهم علم لَدُنيّ يرد على قلوبهم من غيب الهدى، لها جَوَلان في
____________
(1) معطوف على الانبياء أي عجزوا كما عجز الانبياء عن وصف ربّنا ـ عزّ وجلّ ـ كما ينبغي له ويليق به، ولولا ما علّمهم الله تعالى في دينه ما عرفوا ما عرفوا من وحيه، وإنّما قلنا بذلك العطف ; لانّه لم يحيء بعدهم حديث عنهم، فليعلم. انتهى.مصحّحه.
(2) الكهف: 114.
الملكوت، فترجع الى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يلقي إليها عالم علمه.
ومن ثمرة ذلك حصول الخشية وتزايد الخوف، والعمل بالاخلاص والصدق والزهد وصون النفس عن مواطن الهلكة، وإلاّ هلك وأهلك غيره.
ومثل العالم كمثل السفينة إذا انخرقت غرقت وغرق أهلها، فواجب على العالم أن يحترز لئلا يَهلك ويُهلك غيره، فيلقى الله بذنوبه وذنوب غيره، فيضاعف عليه العذاب.
[قول محمد بن المنكدر بالتأويل]
قال محمد بن المنكدر ـ وهو من سادة التابعين، وكانت عائشة رضي الله عنها تحبّه وتُكرمه وتَبِّره: الفقيه يدخل بين الله ـ عزّ وجلّ ـ وبين عباده،فلينظر كيف يدخل ؟
وصدق ونصح قدّس الله روحه.
وهذا شأن السلف بذلوا النصيحة للاسلام والمسلمين، وكانوا شديدين على من خالف، ولا سيّما لما ظهر أهل الزيغ، وتظاهروا بالتنويه بذكر آيات المتشابه وأحاديثه، بالغوا في التحذير منهم ومن مجالستهم، وكانوا يقولون: هم الذين عنى الله ـ عزّ وجلّ ـ في قوله تعالى: (فأمّا الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منهُ ابتغاء الفتنةِ)(1) الاية.
________________________________________
وكذا قالت عائشة رضي الله عنها.
وكانوا يقولون ـ إذا جلس أحد للوعظ والتذكير ـ: تفقدوا منه أموراً، ولا تغترّوا بكلّ واعظ، فإنّ الواعظ إذا لم يكن صادقاً ناصحاً سليم السريرة من الطمع
____________
(1) آل عمران: 7.
والهوى هلك وأهلك.
وذكروا أشياء ببعضها تنطفيء نار الشبه التي بها يموّه أهل الزيغ.
ومن لا يقبلها فما ذاك إلاّ أنّ الله ـ عزّ وجلّ ـ يريد إهلاكه وحشره في زمرة السامرة واليهود والزنادقة، ومن يرد الله ـ عزّ وجلّ ـ إضلاله فلا هادي له (والله يحكم لا معقب لحكمه) (لا يُسأل عمّا يفعل) قسّم الخلق الى شقيّ وسعيد، فهو الفعّال لما يريد، فمن اتبع هداه فلا يضلّ ولا يشقى، ومن اتبع هوى نفسه الامّارة وأهل الزيغ والضلالة، وحاد عن سبيل من بهم يُقتدى هلك في المرقى.
ولنرجع الى قول السلف رضي الله عنهم: إذا جلس شخص للوعظ فتفقدوا منه أُموراً إن كانت فيه، وإلاّ فاهربوا منه، وإياكم والجلوس إليه، وإلاّ هلكتم من حيث طلبتم النجاة.
قالوا ذلك حين ظهر أهل الزيغ والبدع، وكثرت المقالات، وذلك بعد وفاة عمر رضي الله عنه وحديث حذيفة رضي الله عنه يدلّ لذلك واللفظ لمسلم.
[حديث حذيفة في الفتن ونبوغ الاهواء]
قال حذيفة: (كنّا عند عمر رضي الله عنه، فقال: أيّكم سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه. فقال: لعلّكم تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره، قالوا: أجل. قال: تلك تُكفّرها الصلاة والصيام والصدقة، ولكن أيّكم سمع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر التي تموج موج البحر؟ قال حذيفة رضي الله عنه: فأسكت القومُ، فقلت: أنا. قال: أنت لله أبوك.
قال حذيفة رضي الله عنه: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: تُعرض الفتنُ على القلوب كالحصير، فأيّ قلب أُشرِبَها نُكِت فيه نُكتة سوداء، وأيّ قلب أنكرها نُكِت فيه نُكتة بيضاء ; حتّى يصير على قلبين: على أبيض مثل الصفاة، فلا تضرّه
________________________________________
فتنة مادامت السموات والارض، والاخر أسود مرباداً كالكوز مجْخيّاً ; لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلاّ ما أُشرب من هواه.
قال حذيفة (رضي الله عنه): وحدّثته: أنّ بينك وبينها باباً مُغلقاً يوشك أن يُكسر.
قال: قال عمر (رضي الله عنه): أكسر لا أبا لك، فلو أنّه فتح لعلّه كان يعاد. قال: لا، بل يُكسر.
وحدّثته: أنّ ذلك الباب رجل يُقتل أو يموت حديثاً ليس بالاغاليط.
قال أبو خالد: فقلت لسعيد: يا أبا مالك ما «أسود مرباداً»؟
قال: شدة البياض في السواد.
قال قلت: فما «الكوز مجخيّاً»؟ قال: منكوساً(1) .
فقوله: «ليس بالاغاليط» يعني أنّه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
والفتن كلّ أمر كشفه الاختبار عن أمر سوء، وأصله في اللغة الاختبار، وشُبّهت بموج البحر ; لاضطرابها ودفع بعضها ببعض وشدّة عظمها وشيوعها.
وقوله: «تعرض الفتن على القلوب» أي تلصق بعرض القلوب ; أي بجانبها كالحصير تلصق بجنب النائم، وتؤثر فيه لشدة التصاقها.
وهذا شأن المشبّهة تلصق فتنة التشبيه في قلوبهم وتؤثّر، وتحسن لعقولهم ذلك حتّى يعتقدوا ذلك ديناً وقرباناً من الله عزّ وجلّ، وما يقنع أحدهم حتّى يبقى داعية وحريصاً على(2) إفتان من يقدر على إفتانه، كما هو مشاهد منهم.
____________
(1) صحيح مسلم: كتاب الايمان الحديث 207، والبخاري في مواقيت الصلاة رقم 494 وفي الزكاة 1345 وفي الصوم 1762 وفي المناقب 3321 وفي الفتن 6567، والترمذي في الفتن 2184، وابن ماجة في الفتن 3945، وأحمد في المسند رقم 22322.
(2) يريد: فتنة من يقدر على فتنته أو فتن أو فتون… الى آخره. أنتهى. مصحّحه.
وإلى مثل ذلك قوله «أُشرِبها» أي دخلت فيه دخولاً تامّاً وألزمها وحلّت منه محلّ الشراب ومنه قوله تعالى: (وأُشربوا في قلوبهم العجلَ)(1) أي حبّه.
فقوله: «إنّ بينك وبينها باباً مُغلقاً» معناه أنّ تلك الفتن لا تفتح، ولا يخرج منها شيء في حياتك.
________________________________________
وقوله: يُوشك ـ هو بضم الياء وكسر الشين ـ معناه أنّه يكسر عن قرب، والرجل هو عمر، وقد جاء مبيّناً في الصحيح.
والحاصل: أنّ الحائل بين الناس وبين الفتن هو عمر (رضي الله عنه) ما دام حيّاً، فإذا مات دخلت.
ومبدأ الفتن هو الذين شَرِقوا(2) بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وبأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ; لعلمهم أنّ الدين لا يتمّ إلاّ بهما ; لانّ عندهم علماً بذلك، وكانوا يُظهرون الاسلام ويقرؤون شيئاً من القرآن، وكانوا يرمزون الى التعرّض بالنقص حتّى في النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)حتّى أنّ منهم من كان يؤمّ الناس ولا يقرأ في الجهرية إلاّ بعبس ; لما فيها من العتاب مع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لاجل ابن أُمّ مكتوم، وهمّ (رضي الله عنه) على(3) قتاله.
وتظاهر شخص بسؤال: ماالذاريات ذَرْواً؟ فقال عمر (رضي الله عنه): اللّهمّ أمكني منه،
____________
(1) البقرة: 63.
(2) أي غَصّوا به (صلى الله عليه وآله وسلم) وبصاحبيه، فلم يستطيعوا أن ينفذوا ما يضمرون من الكيد للاسلام في وجودهم ; لعلمهم… الى آخره. انتهى.
(3) «على» موضع الباء. انتهى.مصحّحه.
فمرّ يوماً، فقيل له: هوذا، واسم الرجل صبيغ، فشمّر عمر (رضي الله عنه) عن ذراعيه وأوجعه جلداً. ثمّ قال: أرحِلوه، فاركبوه على راحلته، فقال: طيفوا به في حيّه ليعلم الناس بذلك(1) .
وكان (رضي الله عنه) شديداً في دين الله ـ عزّ وجلّ ـ لا تأخذه في الله لومة لائم، وقد ذكرت نبذة يسيرة من سيرته في كتاب «قمع النفوس».
ولما كان أواخر القرن الاوّل اتّسع الامر من القُصّاص.
________________________________________
وتظاهر شخص يقال له المغيرة بن سعيد، وكان ساحراً، واشتهر بالوصّاف، وجمع بين الالحاد والتنجيم، ويقول: إنّ ربه على صورة رجل على رأسه تاج، وإن أعضاءه على عدد حروف الهجاء، ويقول ما لا ينطق به، ويقول: إنّ الامانة في قول الله تعالى: (إنّا عرضنا الامانةَ على السمواتِ والارضِ والجبالِ)(2) ، هي أن لا يُمنع عليٌّ الخلافة، وقوله تعالى:(وحَمَلَها الانسانُ إنّه كانَ ظلوماً جَهولاً)(3) هو أبو بكر (رضي الله عنه)، وقال عمر (رضي الله عنه) لابي بكر أن يحملها ويمنع عليّاً منها، وضمن عمر أنّه يعيّن أبا بكر بشرط أن يجعل أبو بكر الخلافة له بعده، فقبل أبو بكر منه، وأقدما على المنع متظاهرين.
ثمّ وصفهما بالظلم والجهل، فقال: وحملها أبو بكر إنّه كان ظلوماً جهولاً، وزعم أنّه نزل في حقّ عمر (رضي الله عنه) (كمثلِ الشيطانِ إذ قال للانسانِ أكفرْ…)
____________
(1) ونفاه بعد ذلك(رضي الله عنه)، ولم يرجعه حتّى صدقت توبته. انتهى. مصحّحه.
(2) الاحزاب: 72.
(3) الاحزاب: 72.
(1) الاية، وكان يقول بتكفير سائر الصحابة رضي الله عنهم إلاّ لمن ثبت مع عليّ (رضي الله عنه).
وكان يقول: إنّ الانبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لم يختلفوا في شيء من الشرائع، وكان يقول بتحريم إنكار المنكر قبل خروج الامام.
وقال لمحمّد الباقر: أقِرّ أنّك تعلم الغيب حتّى أجبي لك العراق، فانتهره وطرده.
وكذا فعل بجعفر الصادق ـ ولد محمّد الباقر ـ فقال: أعوذ بالله.
وكان يقول: انتظروا محمد بن عبدالله الامام، فإنّه يرجع ومعه ميكائيل وجبريل يتبعانه من الركن والمقام.
وكان له خبائث،فلمّا كان في السنة التاسعة عشرة والمائة ظفر به خالد بن عبدالله القسري، فأحرقه وأحرق معه خمسة من أتباعه(2) .
فهذا شأن أهل الزيغ.
واستمرّ الامر على ذلك، إلاّ أنّهم سلكوا مسلك المكر والحيلة بإظهار
____________
(1) الحشر: 16.
________________________________________
(2) جمع المؤلّف في الحديث عن المغيرة بن سعيد بين هذه الخرافات وخلط فيها بين الحقّ والباطل نقلاً عن أعداء آل محمد(صلى الله عليه وآله) تشويهاً لسمعتهم وإبعاداً للناس عنهم وعن مآثرهم ومكارمهم ومعارفهم، فليتروّ القارىء في أكثر هذه المنقولات، وليقرأها بحذَر!
فإنّ أكثر أهل هذا الشأن هم أهل الحديث، والمنتسبونَ إلى السلفيّة والمذهب الحنبليّ كما صرّح المؤلّف في مواضع، ومن الكراميّة والجهميّة، وهم أبعد الناس من آل محمد ومن مذهب أهل البيت.
الكبّ(1) على سماع الحديث، ويكثرون من ذكر أحاديث المتشابه ويجمعونها ويسردونها على الناس والعوامّ.
ثم كثرت المقالات في زمن الامام أحمد وكثر القُصّاص، وتوجّع هو وابن عُيينة وغيرهما منهم، وكان الامام أحمد يقول: كنت أودّ لو كان قصّاصاً صادقاً نصوحاً طيّب السريرة.
[بدعة الكرامية والحنابلة]
ونبغ في زمنه محمّد بن كرام السجستاني، وترافق مع الامام أحمد، وأظهر حسن الطريقة حتّى وثقه هو وابن عيينة، وسمع الحديث الكثير، ووقف على التفاسير، وأظهر التقشّف مع العفّة ولين الجانب، وكان ملبوسه جلد ضأن غير مخيط، وعلى رأسه قَلَنسُوة بيضاء، ثم أخذ حانوتاً يبيع فيه لبناً، واتّخذ قطعة فَرْو يجلس عليها، ويعظ ويذكّر ويحدّث ويتخشّع.
حتّى أخذ بقلوب العوامّ والضعفاء من الطلبة لوعظه وبزهده ; حتّى حصر من تبعه من الناس فإذا هم سبعون الفاً، وكان من غلاة المشبهة، وصار يُلقي على العوامّ الايات المتشابهة والاخبار التي ظواهرها يوافق عقول العوامّ وما ألفوه.
ففطن الحُذّاق من العلماء، فأخذوه ووضعوه في السجن، فلبث في سجن نيسابور ثمانيَ سنين.
ثمّ لم يزل أتباعه يسعون فيه حتّى خرج من السجن، وارتحل الى الشام، ومات بها في زعر، ولم يعلم به إلاّ خاصّة من أصحابه، فحملوه ودفنوه في القدس الشريف، وكان اتباعه في القدس أكثر من عشرين ألفاً على التعبّد والتقشّف، وقد
____________
________________________________________
(1) يريد «الاكباب». انتهى. مصحّحه.
زيّن لهم الشيطان ما هم عليه وهم من الهالكين وهم لا يشعرون، واستمرّ على ما هم عليه خَلق شأنهم حمل الناس على ما هم عليه إلى وقتك هذا.
قال الله تعالى: (أفمن زُيِّنَ له سوءُ عمله فرآه حسناً)(1) قال سعيد بن جبير: هذه الاية نزلت في أصحاب الاهواء والبدع. المعنى: أنّه ركض في ميادين الباطل، وهو يظنّها حقّاً.
وكان ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ يقول عند هذه الاية: إنّ الضلالة لها حلاوة في قلوب أهلها.
والبدعة هي استحسان ما يسوق إليه الهوى والشبهة مع الظنّ بكونها حقّاً.
وهؤلاء يُنزع من قلوبهم نور المعرفة، وسراج التوحيد من أسرارهم، ووُكلوا الى ما أختاروا، فضلّوا وأضلّوا (ويحسبون أنّهم على شيء ألا إنّهم همُ الكاذبونَ)(2) حتّى ينكشف لهم الامر.
كما قال الله تعالى: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبونَ)(3) قيل: عملوا أعمالاً ظنّوا أنّها في كفّة الحسنات، فإذا هي في كفة السيئات.
وهذه الاية قيل: إنّها في أهل البدع، يتصوّر(4) ويعتقد ـ مع تمام الورع
____________
(1) فاطر: 8.
(2) المجادلة: 18.
(3) الزمر: 47.
(4) أي أحدهم انتهى. مصحّحه.
والزهد وتمام الاعمال الصالحة وفعل الطاعات والقُرُبات ـ ما عاقبته خطرة، ومن ذلك أن يعتقد في ذات الله وصفاته وأفعاله ما هو خلاف الحقّ، ويعتقده على خلاف ما هو عليه ; إمّا برأيه ومعقوله الذي يُحاكي به الخصوم، وعليه يُعوّل وبه يغترّ، قد زيّن له العدّو وحلاّه له حتّى اعتقده ديناً ونعمة، وإمّا أخذاً بالتقليد مّمن هذه حاله. وهذا التقليد كثير في العوامّ، لا سيّما من يعضد بدعته واعتقاده بظاهر آية أو خبر، وهو على وفق الطبع والعادة.
وقد أهلك اللعين بمثل هذا خلقاً لا يُحصون حتّى إنّهم يعتقدون أنّ الحقّ في مثال ماهم عليه، وأنّ غيرهم على ضلالة.
________________________________________
ومثل هؤلاء ومن اتّبعوهم إذا بدا لهم ناصية مَلَك الموت، انكشف لهم(1) ـ ما اعتقدوه حقّاً ـ باطلاً وجهلاً، وخُتم لهم بالسوء، خرجت أرواحهم على ذلك، وتعذّر عليهم التدارك، وكذا كلّ اعتقاد باطل.
ولا يفيد زوال ذلك كثرة التعبّد وشدّة الزهد وكثرة الصوم والحجّ، وغير ذلك من أنواع الطاعات والقربات، لانّها تبع لامر باطل.
ولا ينجو أحد إلاّ بالاعتقاد الحقّ وقد قال تعالى: (فماذا بعد الحقِّ إلاّ الضَّلالُ)(2) وهذه الاية صريحة في أنّه ليس بين الحقّ والباطل واسطة.
والباطل هو الذهاب عن الحقّ، مأخوذ من ضلّ الطريق، وهو العدول عن سمته.
____________
(1) في الاصل: انكشف لهم بطلان ما اعتقدوه…» وهو من سهو القلم، والصحيح حذف كلمة «بطلان». ولعلّ «بطلان» من زيادة النسّاخ.انتهى. مصحّحه.
(2) يونس: 32.
والحقّ هو الصراط المستقيم الذي في قوله تعالى: (وأنّ هذا صراطي مُستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السُّبلَ فتَفَرقَ بكم عن سبيلهِ ذلكم وصَّاكم به لعلّكم تتّقون)(1) وصف الله تعالى صراطه ـ وهو دينه ـ بالاستقامة، وأمر باتّباعه.
والمستقيم هو الذي لا اعوجاج فيه، فمن اتّبعه أوصله الى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
قال سهل: الصراط المستقيم هو الاقتداء والاتّباع وترك الهوى والابتداع.
ثمّ إنّه تعالى نهى عن اتّباع السُّبل ; لما فيها من الحِيَدَة عن طريق الاستقامة، فقال: (ولا تَتّبِعُوا السُّبلَ فتفرَّقَ بِكم عن سبيله) أي تميل بكم عن طريقه ـ التي ارتضى، وبه(2) أوصى ـ الى سُبُل الضلالات من الاهواء، فتهلكوا.
قيل لعبدالله بن مسعود (رضي الله عنه): ما الصراط المستقيم؟ فقال: «ما تركنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)في أدناه وطرفه في الجنّة، وعن يمينه جوادّ، وعن يساره جوادّ، وثَمّ رجال يدعون من مرّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به الى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به الى الجنّة، ثمّ تلا: (وأنَّ هذا صراطي مُستقيماً) الاية.
________________________________________
فأشار (رضي الله عنه)بالرجال الذين على الجوادّ الى علماء السوء وأهل البدع، وأشار بقوله: «يدعون من مرّ بهم» الى الوعّاظ الذين هم سبب هلاك من قعد إليهم.
____________
(1) الانعام: 153.
(2) راعى في وصف الطريق بـ «التي» جواز تأنيثها، وراعى في رجوع الضمير إليها «به» جواز تذكيره، فليعلم. انتهى. مصحّحه.
ولهذا بالغ السلف رضي الله عنهم في التحذير من مجالسة كلّ أحد، وقالوا: إذا جلس للوعظ فتفقدّوا منه أموراً، فإن كانت فيه فأهربوا منه، وإلاّ هلكتم من حيث ظننتم النجاة.
منها: إن كان مبتدعاً فاحذروه واجتنبوه، فانه على(1) لسان الشيطان ينطق، ومن نطق على لسان الشيطان فلا شكّ ولا ريب في إغوائه، فيهلك الانسان من حيث يظنّ السلامة.
وأيضاً ففي المشي إليه ومجالسته تعظيم له وتوقير.
روى ابن عدي من حديث عائشة رضي الله عنها: (من وقّر صاحب بِدْعة فقد أعان على هدم الاسلام)، ورواه الطبراني في مُعجمه الاوسط، ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث عبدالله بن بشر، وبهذا وغيره يجب التبرّي من أهل البدع والتباعد.
قال بعض السلف: «من بشّ في وجه مبتدع أو صافحه فقد حلّ عُرى الاسلام عروة عروة».
وقال شخص من أهل الاهواء لايّوب السختياني (رضي الله عنه): أكلّمك كلمة. فقال: لا والله ولا نصف كلمة.
وكان يقول: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلاّ ازداد من الله بُعداً.
قال (رضي الله عنه): كنّا ندخل على أيّوب السختياني، فإذا ذكرنا له حديثاً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي حتّى نرحمه.
وكان يقول: إذا بلغني موت أحد من أهل السُّنّة فكأنّما يسقط عضو من
____________
(1) «على» بمعنى عن أو الباء. انتهى.مصحّحة.
أعضائي.
وكان يقول: والله ما صدق عبد إلاّ سرّه ألاّ يراه أحد(1) .
________________________________________
وكان يونس بن عبيد يقول: احفظوا عنّي ثلاثاً متُّ أو عشتُ: لا يدخلنّ أحد على سلطان يعظه أو يعلّمه، ولا يخلونّ بأمرأة شابة وإن أقرأها القرآن، ولا يمكّن سمعه من ذي هوىً، وأشدها الثالثة ; لما فيها من الزيغ أعاذنا الله من ذلك.
وكان يقول: ما يزال العبد بخير ماأبصر ما يفسد عمله.
ويونس هذا تابعي من أصحاب الحسن البصري.
وكان أبو عبدالله الاصبهاني من عباد الله الصالحين ومن البكّائين، ولم يكن بأصبهان أزهد منه ولا أورع منه، قال: وقفت على علي بن ماشاذة، وهو يتكلّم على الناس.
فلمّا جاء الليل رأيت ربّ العزة في النوم، فقال لي: وقفت على مبتدع وسمعت كلامه لاحرمنّك النظر في الدنيا، فاستيقظ وعيناه مفتوحتان لا يبصر بهما شيئاً.
وقال الحميدي: سمعت الفضيل يقول: من وقرّ صاحب بدعة أورثه الله عمًى قبل موته.
قيل: أراد أيضاً عمى البصيرة.
____________
(1) أي وهو يعمل الصالحات، وهو كلام جليل، فليفكّر فيه القارىء طويلاً لعله يتحقق به. انتهى. مصحّحه.
[البدعة وأسبابها]
وأعلم: أنّ الكلام على البدعة وأهلها فيه طول جدّاً، وقد ذكرت جملة منه في «تنبيه السالك على مظانّ المهالك».
ومنها: أن يكون الواعظ سيء الطعمة، فإنّه إنّما ينطق بالهوى ; لانّ مثل هذا يوقع الناس في الحرام،أو ربّما اعتقدوا حلّه ; لانّهم يقتدون به في فعله بواسطة قوله.
ومنها: أن يكون رديء العقل أحمق، فانه يفسد بحمقه أكثر مما يصلح،والاحمق هو الذي يضع الشيء في غير موضعه ويعتقد أنّه يصيب.
قال عيسى (عليه السلام): «أبرأت الاكمه والابرص وأعياني الاحمق».
فالاحمق مقصوده صحيح، ولكن سلوكه للطريق فاسد، فلا يكون له رؤية صحيحة في طريق الوصول الى الغرض، ويختار ما لاينبغي أن يختار، وهذا واجب الاجتناب.
بخلاف صاحب العقل الصحيح، فإنّه يُثمر حسن النظر وجودة التدبير وثقافة الرأي وإصابة الظنّ، والتفطن لدقائق الادلّة والاعمال وخفايا النفس الامّارة وغرور الشيطان.
________________________________________
ومنها: أن يذكر الادّلة التي هي رجاء وتوسعة على النفوس، ويسكت عن آيات الخوف والرهبة وكذا الاخبار والاثار ; لانه بذلك يحلّ من القلوب الزواجر، ويسهل ارتكاب المعاصي، لا سيّما إذا علم منه ارتكاب شيء ولو كان مكروهاً، فانه يوقع الناس في ورطة عظيمة.
قال: «إذا عبث العلماء بالمكروه عبث العوامّ بالحرام، وإذا عبث العلماء بالحرام كفر العوامّ» ; معناه: أنّهم يعتقدون حلّه لارتكاب العلماء ذلك ; لانّهم القادة وعليهم المعوّل في التحليل والتحريم.
ومنها: أن يتعرّض لايات المتشابه وكذلك الاخبار، ويجمعها ويسردها ويكرّر
الاية والخبر مراراً ; لانّه يوقع العامّي فيما اعتاده وألفه، فيُجري صفات الخالق سبحانه وتعالى على ما ألفه وجرى عليه طبعه، ويزيّنه الشيطان له بغروره، لا سيّما إن كان الواعظ مّمن يُظهر زهداً وورعاً وشفقة على الناس، فكم من شخص حسن الظاهر خبيث الباطن، جميل الظاهر قبيح السرائر والضمائر.
والسلف رضي الله عنهم لهم اعتناء بشدّة مجانبة هذا والتباعد عنه.
ومنها: أن يكون متهماً بالرفض وبسبّ الصحابة رضي الله عنهم.
وهؤلاء نبّه مالك (رضي الله عنه) على أنّهم من سلالة المنافقين، وأوضح ذلك نوّر الله تعالى قلبه، فقال: أرادوا أن يقدحوا في النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بشيء فلم يجدوا مساغاً، فقدحوا في الصحابة ; لانّ القدح في الرجل قدح في صاحبه وخليطه، وهؤلاء كفّار لا ستحلالهم سبّ أفضل الخلق بعد الانبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
ومنهم: أقوام يُلبسون على الناس بقراءة البخاري وغيره، وهم لا يعتقدون البخاري، ويسمّونه فيما بينهم بالفشاري، ولهم خبائث عديدة كلّ واحدة كفر محقّق.
وبقي أُمور لا أطوّل بذكرها.
________________________________________
فمن أراد الله به خيراً حماه عن مجالسة هؤلاء ; لانّ القلب سريع الانقلاب وقبول الرخص والشبه، فإذا علقت به الشبهة والريبة فبعيد أن ترتفع عن قلبه غشاوة ما وقر فيه، وأقلّ ما ينال القلب التردّد والحيرة، وذلك عين الفتنة ومراد الشيطان.
فّان كان الذي دخلت قلبه الشبهة عاميّاً، والمبتدع أدخلها عليه بـ «قال الله عزّ وجلّ وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)» فبعيد أن يرجع ويتقشّع عن قلبه غشاوة الجهل والحيرة لتحكّم الشبهة بالدليل، وهذا من الهالكين إلاّ أن يتداركه الله
برحمته.
لانّ عمدة الناس الكتاب والسُّنّة، والهلكة الجهلة يفهمونهما على غير المراد منهما على الوجه المرضيّ.
فمن حقّ العبد الطالب للنجاة حراسة قلبه وسمعه عن خزايا خُزعبلات المبتدعة وتزويق كلامهم، وأن لا يغترّ بتقشّفهم وكثرة تعبّدهم وزهدهم ووصفهم لانفسهم، فإنّ ذلك من أقوى حبائلهم التي يصطادون بها، وبها تتشرّب القلوب لبدعتهم، لا سيّما من قلبه مشغوف بحبّ الدنيا، إذا رأى زاهداً فيها، مع إكبابه على الكتاب والسُّنّة،مع الورع والزهد والعفّة والقناعة، فلا شكّ ولا ريب أنّه يرغب فيه غاية الرغبة، ويميل إليه غاية الميل، ولا يصدّه عنه صادّ، كما هو مشاهد من العوامّ ومحبّتهم ورغبتهم لمن هو بهذه المثابة.
فتنبّه لذلك، فقد أوضحتُ طريق السلامة والتباعد من مظانّ الهلكة.
فكم من شخص قصدُهُ صالحٌ، قد هلك بمثل هؤلاء إخوان الشياطين وهو لا يشعر.
وعليك بالاقتداء بالاطباء ; أعني أطباء القلوب، وهم الانبياء (عليهم السلام) ; لانهم العالمون بأسباب الحياة الاُخروية، ثمّ أتباعهم الذين أخذوا عنهم، وشاهدوا منهم مالم يشاهده غيرهم. شعر:
ن كان يرغب في النجاة فما لَهُ … غير اتّباع المصطفى فيما بدا
اتْبعْ كتاب الله والسنن التي … صحّت فذاك إذا اتّبعتَ هو الهدى
الدينُ ما قال النبيُّ وصحبُهُ … فإذا اقتديت بهم فنِعْم المُقتدى
________________________________________
فسبحان الحليم الودود، الممهل الكريم العميم الجود، العالم بخفايا الضمائر ودبيب النملة على الصخرة في الليالي السود. ويرى جريان الماء في العود. القادر فكلّ ما سواه بقدرته موجود. نزّه نفسه بنفسه لعجز خلقه عن ذلك، فتعالى عن الاشكال والامثال والجهات والحدود، صفاته قديمة ثابتة بالنقل والعقل، فمن عطّل وقع في الجحود، وتنزيهه عن النقائص والاشباه محقّق ومعلوم، والتشبيه مذهب السامرة واليهود. وكفّ الكيف مشلولة بل مقطوعة، وباب التشبيه مردوم ومسدود، فمن فتحه هجمت عليه نار الوعيد، فأهلكته كما هلك فرعون ونمرود، وأصحاب الاخدود وعاد وثمود، فنسأل الله العافية من الفتن ومن أسبابها ومن النار ذات الوقود، ونتوسّل إليك بسيّد الاوّلين والاخرين محمّد، كما توسّل به أبو البشر فقبلته، فهو أحمد المحمود، صاحب الحوض المورود، والمقام المحمود، فهو أعظم الوسائل، ولا يخيب من توسّل به ولو كان من أهل الجحود.
[التوسّل بالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن]
قال الله تعالى: (وكانوا) أي اليهود (مِنْ قَبْلُ) أي بعث محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)(يستفتحون) أي يستنصرون (على الذين كفروا)(1) وهم مشركو
____________
(1) البقرة: 89.
العرب، كانوا يقولون إذا حَزَبَهُمْ أمر أو دهمهم عدوّ: «اللّهمّ انصرنا بجاه النبيّ المبعوث آخر الزمان، الذي نجد صفته في التوراة»، فكانوا يُنصرون، وكانوا يقولون لاعدائهم كغطفان وغيرها من المشركين: «قد أطلّ زمانُ نبيٍّ يخرج بتصديق ما قلناه، فنقتلكم معه قتل عاد وثمود».
فانظر ـ أرشدك الله ـ الى قدره ودُنوّ منزلته عند ربّه، كيف قبل عزّ وجلّ التوسّل به من اليهود،مع علمه سبحانه بأنهم يكفرون به، ولا يوقّرونه ولا يعظّمونه، بل يؤذونه، ولا يتّبعون النور الذي أُنزل معه ؟
فمن مَنع التوسّل به فقد نادى على نفسه، وأعلم الناس بأنّه أسوأ حالاً من اليهود.
شعر:
________________________________________
نت الملاذُ لنا وأنت المرتجى … وبك اللياذُ وأنت ملجأُ مَن لَجا
سيّد الكونينِ يامَن قد سما … معراجُه فوق السماءِ وعرَّجا
سيّد الثقلين والحكم الهدى … والمقصد الاسنى لابواب الرجا
سيّداً مَن أمَّ بابَ مقامه … ألفاهُ خير مقامِ سُؤْل يُرتجى
سيّداً ما أمَّهُ من ضامهُ … ريبُ الزمان بخَطبه إلاّ نجا
سيّداً جعل الالهُ وجودَهُ … للعالمين المرتجى والمُلتجا
خاتم الرُّسُل الكرامِ ومن بهِ … ربُّ البريّةِ كلَّ همٍّ فرَّجا
غيره:
كن مستجيراً بالذي نالَ رفعةً … الى عزّها ذلَّ الملوكُ الاكاسرُ
بيٌّ لهُ جاهٌ عريض ومَنصَبٌ … عظيمٌ له تُعزى العُلى والمفاخرُ
ليلٌ جميلٌ راحمٌ مُتعطِّفٌ … فصيحٌ مليحٌ كاملُ الحُسنِ باهرُ
لا يا رسولَ الله يا غاية المُنى … لقد نلتَ فخراً ما لادناه آخرُ
يا دُرة الانباء ياجوهر الورى … هنيئاً لنفس في هواك تُتاجرُ
قد ربحتْ في بيعها وتنعّمت … وقد سَعِدت يادرّها والجواهرُ
بيبي رسولَ الله كُنْ لِيَ شافعاً … أغِثْني أجِرْني يومَ تُبلى السرائرُ
جاهك آمالُ الضعيف تعلّقتْ … إذا نُصب الميزانُ والعقلُ طائرُ
كن شافعي عند الاله فإنّه … حليمٌ كريمٌ غافرُ الذنبِ ساترُ
ضى العُمرُ في لهو وزهو وغفلة … وإنّي عن الفعل الحميد لقاصرُ
ياربِّ دارِكْنا بعفو ورحمة … فأنت جيملُ العفو للكسرِ جابرُ
خُذْ بنواصينا وطهِّرْ قُلوبَنا … ومُنَّ بعفو منكَ فالعفوُ غامرُ
صلِّ على البدرِ الذي من جبينِهِ … بَدا الشمسُ والاقمارُ والنجمُ زاهرُ
نجزتُ هذه الاحرف المباركات على قارئها ومستمعيها، المتأسّين بأهل الحقّ، التابعين للصفوة من أولي المعجزات، المنزِّهين لربّ العالمين، والمعظّمين لسيّد الاوّلين والاخرين، وسائر الانبياء والمرسلين، وسرج هذه الاُمّة من بعدهم، كالصدّيقين وسائر الصحابة والتابعين لهم بأحسان الى يوم الدين.
[ابن تيمية الحرّاني وآراؤه]
________________________________________
وكنتُ قد عزمت على أن أقتصر على ذلك ; لانّ في بعض ما ذكرته وقاية من المقت والمهالك.
ثمّ قيل لي وكُرِّر عليّ: إنّ أهل التشبيه والتجسيم والمزدرين بسيّد الاولين والاخرين ـ تبعاًلسلالة القردةوالخنازير ـ لهم وجودوفيهم كثرة، وقدأخذوا بعقول كثير من الناس ; لما يزيِّنون لهم من الاطراء على قدوتهم، ويُزخرِفون لهم بالاقوال والافعال، ويموِّهون لهم بإظهار التنسّك، والاقبال على كثرة الصلاة والصوم والحجّ والتلاوة، وغير ذلك مّما يحسن في قلوب كثير من الرجال، لا سيما العوامّ المائلين مع كلّ ريح أتباع الدجّال، فانقادوا لهم بسبب ذلك، وأوقعوهم في اسر المهالك.
فرأيت بسبب هذه المكايد والخزعبلات أن أتعرض لسوء عقيدتهم ; قمعاً لهذا الزائغ عن طريق أهل الحقّ، وهم الائمة الاربعة المقتدى بهم والمعوّل عليهم في جميع الاعصار والاقطار ; لانّهم النجوم الذين بهم يُهتدى.
وقد بالغ جمع من الاخيار من المتعبّدين وغيرهم من العلماء، كأهل مكّة وغيرها، أن أذكر ما وقع لهذا الرجل من الحِيَدة عن طريق هذه الائمة ولو كان
أحرفاً يسيرة ; إما بالتصريح أو بالتلويح مشيرة، فاستخرتُ الله ـ عزّ وجلّ ـ في ذلك مدّة مديدة.
ثم قلت: لا أبا لك، وتأملت ما حصل وحدث بسببه من الاغواء والمهالك، فلم يسعني عند ذلك أن أكتم ما علمت، وإلاّ ألجمتُ بلجام من نار ومقت.
وها أنا أذكر الرجل، وأُشير باسمه الذي شاع وذاع، واتّسع به الباع، وسار بل طار في أهل القرى والامصار.
وأذكر بعض ما أنطوى باطنه الخبيث عليه، وما عوّل في الافساد بالتصريح أو الاشارة إليه.
ولو ذكرت كثيراً مّما ذكره ودوّنه في كتبه المختصرات، لطال جدّاً، فضلاً عن المبسوطات.
وله مصنّفات أُخر لا يمكن أن يطّلع عليها إلاّ من تحقّق أنّه على عقيدته الخبيثة،ولو عصر هو واتباعه بالعاصرات ; لما فيها من الزيغ والقبائح النحسات.
________________________________________
قال بعض العلماء من الحنابلة في الجامع الاُموي في ملا من الناس: لو اطّلع الحصني على ما اطّلعنا عليه من كلامه، لاخرجه من قبره وأحرقه وأكّد هؤلاء أن أتعرّض لبعض ما وقفت عليه.
وما أفتى به مخالفاً لجميع المذاهب، وما خطِىء فيه وما انتقد عليه.
وأذكر بعض ما اتّفق له من المجالس والمناظرات، وما جاءت به المراسيم العاليات.
وأتعرض لبعض ما سلكه من المكايد التي ظنّ بسببها أنّه تخلص من ضرب السياط والحبوس وغير ذلك من الاهانات، وهيهات.
[انتساب ابن تيمية إلى مذهب أحمد بن حنبل!]
فأوّل شيء سلكه من المكر والخديعة أن انتمى الى مذهب الامام أحمد، وشرع يطلب العلم ويتعبّد، فمالت إليه قلوب المشايخ، فشرعوا في إكرامه والتوسعة عليه، فأظهر التعفّف فزادوه في الرغبة فيه والوقوع عليه، ثمّ شرع ينظر في كلام العلماء، ويعلّق في مسودّاته حتّى ظنّ أنّه صار له قوّة في التصنيف والمناظرة، وأخذ يدوّن ويذكر أن جاءه استفتاء من بلد كذا، وليس لذلك حقيقة، فيكتب عليها صورة الجواب، ويذكر مالا ينتقد عليه، وفي بعضها ما يمكن أن ينتقد، إلاّ أنّه يشير إليه على وجه التلبيس ; بحيث لا يقف على مراده إلاّ حاذق عالم متفنّن، فإذا ناظر أمكنه أن يقطع من ناظره إلاّ ذلك المتفنّن الفطن.
[خداعه لعوامّ الناس]
________________________________________
ثمّ شَرَع يتلقى الناس بالاُنس وبسط الوجه ولين الكلام، ويذكر أشياء تحلو للنفوس، لاسيّما الالفاظ العذبة، مع اشتمالها على الزهد في الدنيا والرغبة في الاخرة، فطلبوا منه أن يُذكّر الناس ففعل، فطار ذكره بالعلم والتعبّد والتعفف، ففزع الناس إليه بالاسئلة، فكان إذا جاءه أحد يسأله عن مسألة، قال له: عاودني فيها، فإذا جاءه قال: هذه مسألة مشكلة، ولكن لك عندي مخرج أقوله لك بشرط، فإني أتقلدها في عنقي، فيقول: أنا أوفي لك، فيقول: أن تكتم عليّ، فيعطيه العهود والمواثيق على ذلك، فيفتيه بما فيه فرجه ; حتّى صار له بذلك أتباع كثيرة يقومون بنصرته أن لو عرض له عارض.
ثمّ إنّه علم أنّ ذلك لا يخلّصه، فكان إذا كان في بعض المجالس، قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، قد انفتقت فتوق من أنواع المفاسد يبعد ارتتاقها، ولو كان لي حكم لكنت أجعل فلاناً وزيراً، وفلاناً محتسباً، وفلاناً دويداراً، وفلاناً أمير
البلد، فيسمع أولئك وفي قلوبهم من تلك المناصب، فكانوا يقومون في نصرته.
[محايلته للعلماء]
ثمّ اعلم: أنّ مثل هؤلاء قد لا يقدرون على مقاومة العلماء إذا قاموا في نحره، فجعل له مَخْلصاً منهم ; بأن ينظر الى من الامر إليه في ذلك المجلس، فيقول له: ما عقيدة إمامك، فإذا قال: كذا وكذا، قال: أشهد أنّها حقّ، وأنا مخطيء، واشهدوا أني على عقيدة إمامك، وهذا كان سبب عدم إراقة دمه، فإذا انفضّ المجلس أشاع أتباعه أنّ الحقّ في جهته ومعه، وأنّه قطع الجميع ; ألا ترون كيف خرج سالماً حتّى حصل بسبب ذلك افتتان خلق كثير، لا سيّما من العوامّ.
فلمّا تكرر ذلك منه علموا أنّه إنّما يفعل ذلك خديعة ومكراً، فكانوا مع قوله ذلك يسجنونه، ولم يزل ينتقل من سجن الى سجن حتّى أهلكه الله ـ عزّ وجلّ ـ في سجن الزندقة والكفر.
[التزام ابن تيميّة للتقيّة]
________________________________________
ومن قواعده المقرّرة عنده، وجرى عليها أتباعه، التوقّي بكلّ ممكن حقّاً كان أو باطلاً ولو بالايمان الفاجرة ; سواء كانت بالله ـ عزّ وجلّ ـ أو بغيره.
وأمّا الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه، ألبتّة، ولا يعتبره سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز، وهذا مذهب فرقة الشيعة، فإنهم لا يرونه شيئاً، وإشاعته هو وأتباعه أنّ الطلاق الثلاث واحدة خُزَعْبَلات ومكر، وإلاّ فهو لا يوقع طلاقاً على حالف به ; ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أيّ وجه ; سواء كان حثاً أو منعاً أو تحقيق خبر، فاعرف ذلك، وأنّ مسألة الثلاث إنّما يذكرونها تستّراً
وخديعة وقد وقفتُ على مصنّف له في ذلك(1) ، وكان عند شخص شريف زينبي، وكان يردّ الزوجة الى زوجها في كلّ واقعة بخمسة دراهم، وإنّما أطلعني عليه لانّه ظنّ أنّي منهم، فقلت له: ياهذا أتترك قول الامام أحمد وقول بقيّة الائمة بقول ابن تيميّة؟!
فقال: أشهد عليّ أنّي تُبتُ.
وظهر لي أنّه كذب في ذلك، ولكن جرى على قاعدتهم في التستّر والتقيّة، فنسأل الله العافية من المخادعة، فإنّها صفة أهل الدَّرك الاسفل(2) .
[تزوير ابن تيميّة في المصنّفات والمصادر]
ثمّ اعلم قبل الخوض في ذكر بعض ما وقع منه وانتقد عليه: أنّه يذكر في بعض مصنّفاته كلام رجل من أهل الحقّ، ويدسّ في غضونه شيئاً من معتقده الفاسد، فيجري عليه الغبّي بمعرفة كلام أهل الحقّ فيهلك، وقد هلك بسبب ذلك خَلق كثير.
وأعمق من ذلك أنه يذكر: أنّ ذلك الرجل ذكر ذلك في الكتاب الفلاني، وليس لذلك الكتاب حقيقة، وإنّما قصده بذلك انفضاض المجلس، ويؤكّد قوله بأن يقول: ما يبعد أنّ هذا الكتاب عند فلان، ويسمّي شخصاً بعيد المسافة،كلّ ذلك خديعة
____________
(1) هذا شىء مدهش جدّاً، ولو أنّ الذي يحكيه ]غير[ الامام الحصني المعروف بشحّه على دينه، ما وجد ما يحكيه الى القلوب سبيلاً. انتهى. مصحّحه.
________________________________________
(2) لا يتردّد عاقل في أن ما سيحكيه الامام الحصني بعدُ فعلُ دجاجلة لا علماء، فليقرأه العاقل، وليعجب كيف يكون من هذه بلاياهم أئمة في دين الله؟! انتهى. مصحّحه.
ومكر وتلبيس لاجل خلاص نفسه، ولا يحيق المكر السيء إلاّ بأهله.
ولهذا لم يزل فيهم التعازير والضرب بالسياط والحبوس وقطع الاعناق، مع تكتمهم ما يعتقدونه والمبالغة في التكتم ; حتّى أنّهم لا ينطقون بشيء من عقائدهم الخبيثة إلاّ في الاماكن الخفية، بعد التحرّز وغلق الابواب والنطق بما هم عليه بالمخافتة، ويقولون: إنّ للحيطان آذاناً.
[أساليب التيميّة في خداع المسلمين]
ومن جملة مكرهم وتحيّلهم: أنّ الكبير منهم المشار إليه في هذه الخبائث، له أتباع يُظهرون له العلم والعظمة والتعبّد والتعفّف ; يخدعون بذلك أرباب الاموال، لاسيما الغرباء، فيدفع ذلك الغريب أوغيره الى ذلك الشيخ شيئاً،فيأبىويُظهر التعفّف، فيزداد ذلك الرجل حرصاً على الدفع، فلا يأخذ منه إلاّ بعد جهد، فيأخذها ذلك الخبيث، ولا عليه من أطّلاع الله تعالى على خبث طوّيته، ويدفع بعضها الى بعض اتباعه والى غيرهم، ويتمتّع هو وخواصّه بالباقي، ولهم يد وقدرة على ذلك.
ومن جملة مكرهم من هذا النوع أن يكسو عشرة مساكين قمصاناً أو غيرها، ثمّ يقولون: انظروا هذا الرجل كيف يجيئه الفتوح فيؤثركم بها وغيركم، ويترك نفسه وعياله وأصدقاءه، وهكذا كان السلف، ويكون قد أخذ أضعاف ما دفع، وكثير من الناس في غفلة من هذا.
ولولا أنّ ذلك من جملة النصيحة لماذكرته ولما تعرضت له، وكان ما في نفسي شاغلاً عن ذلك، إلاّ أنّه كما قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بسبب نجدة الحروري المبتدع: «لولا أن أكتم علماً لما كتبت إليه» ; يعني جواب ما كتب إليه بأن
يعلّمه مسائل، والقصة مشهورة حتّى في صحيح مسلم(1) .
________________________________________
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): (من سئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلِجام من نار) رواه غير واحد ـ من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) ـ منهم أبو داود، وكذا الترمذي، وحسنّه، والحاكم وصحّحه(2) .
ثمّ إن كان المال المدفوع زكاة فلا تبرأ الذمّة بدفعه إليهم ; لانّهم ليسوا من أهلها، فليتنّبه لذلك فإنّه قد يخفى مع ظهوره، وقد تشكّك في ذلك وتلاعب الشيطان به، فلنأخذه بجانب الاحتياط منه، فإنّه طريق السلامة. والله أعلم.
وأعلم أني لو أردت أن أذكر ما هم عليه من التلبيسات والخديعة والمكر، لكان لي في ذلك مزيد وكثرة وفيما ذكرته أُنموذج ينبّه بعضه على غيره، لا سيّما لمن له أدنى فراسة وحسن نظر بموارد الشرع ومصادره، التي أشار إليها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعضها صرّح به تصريحاً ظاهراً، لا يخفى إلاّ على أكمه لا يعرف القمر.
وفي الصحيحين من حديث عليّ (رضي الله عنه)، قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: (سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الاسنان سفهاء الاحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة).
____________
(1) صحيح مسلم: في الجهاد والسير رقم 3377، وانظر مسند أحمد رقم 1866، وسنن أبي داود في الجهاد رقم 2351.
(2) سنن ابي داود في العلم رقم 3173، وكذا الترمذي برقم 2573، والحاكم في المستدرك 1/101.
وفي صحيح مسلم من حديث علي (رضي الله عنه)، قال: سمعت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: (يخرج قوم من أمّتي يقرؤون القرآن، ليس قراءتكم الى قراءتهم بشيء، وليس صلاتكم الى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم الى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنّه لهم، وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرميّة)(1) .
________________________________________
وفي الصحيحين(2) من حديث ابن عمر (رضي الله عنه)، قال: سمعت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول وهو على المنبر: (ألا إنّ الفتنة هنا ـ ويشير الى المشرق ـ من حيث يطلع قرن الشيطان)، وفي رواية: (إنّ الفتنة ههنا) ثلاثاً، وفي رواية: (خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)من بيت عائشة رضي الله عنها، فقال: رأس الكفر ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان)(3) .
هذا المبتدع من حرّان الشرق ; بلدة لا تزال يخرج منها أهل البدع، كجعد وغيره.
وفي سنن أبي داود من حديث أبي سعيد الخُدري وأنس ـ رضي الله عنهما ـ أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم)قال: (سيكون في أمّتي اختلاف، وفرقة يحسنون القيل ويسيئون الفعل،
____________
(1) صحيح مسلم في الزكام رقم 1773.
(2) البخاري في بدء الخلق رقم 3037، والمناقب رقم 3249، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة رقم 5167 ـ 5172، والترمذي في الفتن 3194، ومسند أحمد رقم 4450.
(3) صحيح البخاري 4/179 و6/115، 8/52، ومسند أحمد ـ مسند المكثرين ـ رقم 4521، والنسائي 7/118، وصحيح مسلم 3/114، والبيهقي 8/170، والترمذي 3/326 عن عبدالله
يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة، هم شرّ الخلق. طُوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يَدْعُو الى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، من قتلهم كان أولى بالله منهم. قالوا: يا رسول الله وما سيماهم؟ قال: التحليق والتسبيد، فإذا رأيتموهم فأنيموهم)(1) أي اقتلوهم، والتسبيد هو الحلق واستئصال الشعر، وقيل: ترك التدهّن وغسل الرأس وغير ذلك.
والاحاديث في ذلك كثيرة، وفي واحد كفاية لمن أراد الله ـ عزّ وجلّ ـ به الرشد والهداية.
فقد أوضحهم سيّد الناصحين(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ باعتبار أوصافهم وأماكنهم ـ إيضاحاً جليّاً لا خفاء فيه لا جهالة، فلا يتوقّف في معرفتهم بعد ذلك إلاّ من أراد الله تعالى إضلاله.
[التحذير من عقائد التيمية أهل الزيغ]
________________________________________
وإذا تمهّد لك هذا أيّها الراغب في فكاك نفسك من رِبْقة عقائد أهل الزيغ
الضالين المضلين، والاقتداء بأهل السلامة في الدين.
فاعلم: أنّي نظرت في كلام هذا الخبيث الذي في قلبه مرض الزيغ، المتتبّع ما تشابه في الكتاب والسُّنّة ابتغاء الفتنة، وتبعه على ذلك خَلْق من العوامّ وغيرهم ممّن أراد الله ـ عزّ وجلّ ـ إهلاكه، فوجدت فيه ما لا أقدر على النطق به(2) ، ولا لي أنامل تُطاوعني على رسمه وتسطيره.
لما فيه من تكذيب ربّ العالمين في تنزيهه لنفسه في كتابه المبين.
____________
(1) سنن أبي داود كتاب السنة رقم 4137.
(2) ليتأمل هذا جدّاً، فإنّه عجيب. انتهى. مصحّحه.
وكذا الازدراء بأصفيائه المنتجبين وخلفائهم الراشدين وأتباعهم الموّفقين.
فعدلت عن ذلك الى ذكر ما ذكره الائمة المتّقون، وما اتّفقوا عليه من تبديعه وإخراجه ببعضه من الدين، فمنه ما دُوّن في المصنّفات، ومنه ما جاءت به المراسيم العليات، وأجمع عليه علماء عصره مّمن يرجع إليهم في الامور الملمّات والقضايا المهمات، وتضمّنه الفتاوي الزكيّات من دنس أهل الجهالات، ولم يختلف عليه أحد، كما اشتهر بالقراءة والمناداة على رؤوس الاشهاد في المجامع الجامعة ; حتّى شاع وذاع، واتّسع به الباع حتّى في الفوات.
[المرسوم السلطاني بشأن ابن تيمية]
فمن ذلك نسخة المرسوم الشريف السلطاني(1) ، ناصر الدنيا والدين محمّد بن قلاوون ـ رحمه الله تعالى ـ وقُرىء على منبر جامع دمشق، نهار الجمعة سنة خمس وسبعمائة. صورته(2) :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تنزّه عن الشبيه والنظير، وتعالى عن المِثْل، فقال تعالى: (لَيسَ كمثلِهِ شيء وهو السميعُ البصيرُ)(3) .
____________
(1) لفظ «ناصر الدين» صفة لموصوف محذوف قطعاً ليستقيم الكلام، والتقدير الصادر من السلطان ناصر الدين… الى آخره. أنتهى. مصحّحه.
(2) لاحظ الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني ص145.
(3) الشورى: 11.
________________________________________
نحمده على ما ألهمنا من العمل بالسُّنّة والكتاب، ورفع في أيّامنا أسباب الشكّ والارتياب.
ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ; شهادة من يرجو بإخلاصه حسن العقبى والمصير، وينزّه خالقه عن التحيّز في جهة ; لقوله تعالى: (وهو معكمْ أينما كنتُمْ واللهُ بما تعملونَ بصيرٌ)(1) .
ونشهد أنّ سيّدنا محمّداً عبده ورسوله الذي نهج سبيل النجاة لمن سلك سبيل مرضاته، وأمر بالتفكّر في الايات، ونهى عن التفكر في ذاته،(صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه الذين علا بهم منارُ الايمان وارتفع، وشيّد الله بهم من قواعد الدين الحنيفي ما شرع، وأخمد بهم كلمة من حاد عن الحقّ ومال الى البدع.
وبعدُ:
فإنّ القواعد الشرعية ; وقواعد الاسلام المرعيّة، وأركان الايمان العلمية، ومذاهب الدين المرضيّة، هي الاساس الذي يُبنى عليه، والموئل الذي يرجع كلّ أحد إليه، والطريق التي من سلكها فاز فوزاً عظيماً، ومن زاغ عنها فقد استوجب عذاباً أليماً: ولهذا يجب أن تنعقد أحكامها: ويؤكد دوامها: وتصان عقائد هذه الاُمة عن الاختلاف: وتُزان بالرحمة والعطف والائتلاف: وتُخمد ثوائر البدع، ويُفرّق من فرقها ما اجتمع.
وكان ابن تيميّة في هذه المدّة قد بسط لسان قلمه، ومدّ بجهله عنان كلمه، وتحدّث بمسائل الذات والصفات، ونصّ في كلامه الفاسد على أمور منكرات، وتكلّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما اجتنبه الائمة الاعلام الصالحون، وأتى في ذلك بما أنكره أئمة الاسلام، وانعقد على خلافه إجماع العلماء
____________
(1) الحديد: 4.
والحكّام، وشهر من فتاويه ما استخفّ به عقول العوامّ، وخالف في ذلك فقهاء عصره، وأعلام علماء شامه ومصره، وبثّ به رسائله الى كلّ مكان، وسمّى فتاويه بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
________________________________________
ولمّا اتّصل بنا ذلك، وما سلك به هو ومريدوه، من هذه المسالك الخبيثة وأظهروه، من هذه الاحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه استخفّ قومه فأطاعوه، حتى اتّصل بنا أنّهم صرّحوا في حقّ الله سبحانه بالحرف والصوت والتشبيه والتجسيم.
فقمنا في نصرة الله، مشفقين من هذا النبأ العظيم، وأنكرنا هذه البدعة، وعزنا(1) أن يشيع عمّن تضّمنه ممالكه هذه السمعة، وكرهنا ما فاه به المبطلون، وتلونا قوله تعالى: (سبحانَ ربِّك ربِّ العزةِ عمّا يصفونَ)(2) .
فإنّه ـ سبحانه وتعالى ـ تنزّه في ذاته وصفاته عن العديل والنظير،(لا تدركه الابصارُ وهو يدركُ الابصارَ وهو اللَّطيفُ الخبيرُ)(3) .
فتقدمت مراسيمنا باستدعاء ابن تيميّة المذكور الى أبوابنا، حين ما سارت فتاويه الباطلة في شامنا ومصرنا، وصرّح فيها بألفاظ ما سمعها ذو فهم إلاّ وتلا
____________
(1) هذه الفقرة محرّفة، ومعناها ليس بظاهر، والذي يظهر أنّ أصلها: «وعُذنا» أن يشيع عمّن تضمّه ممالكه هذه السمعة» يستعيذ السلطان بالله أن يشيع عنه هو تلك السمعة ; لانّ الرجل في مملكته. انتهى. مصحّحه.
(2) الصافات: 180.
(3) الانعام: 103.
قوله تعالى: (لقد جئت شيئاً نُكراً)(1) .
ولمّا وصل إلينا الجمع أولوا العقد والحلّ، وذوو التحقيق والنقل، وحضر قضاة الاسلام، وحكّام الانام، وعلماء المسلمين، وأئمة الدنيا والدين، وعُقد له مجلس شرعيّ في ملا من الائمة وجمع، ومن له دراية في مجال النظر ودفع.
فثبت عندهم جميع ما نُسب إليه، بقول من يُعتمد ويُعوّل عليه، وبمقتضى خطّ قلمه الدالّ على مُنْكَرِ معتقده(2) .
وانفصل ذلك الجمع وهم لعقيدته الخبيثة منكرون، وآخذوه بما شهد به قلمه تالين: (ستُكتَبُ شهادَتُهم ويُسألوُنَ)(3) .
وبلغنا أنّه قد استُتِيبَ مراراً فيما تقدّم، وأخّره الشرع الشريف لما تعرّض لذلك وأقدم، ثمّ عاد بعد منعه، ولم يدخل ذلك في سمعه.
________________________________________
ولمّا ثبت ذلك في مجلس الحاكم المالكي، حكم الشرع الشريف أن يُسجن هذا المذكور، ويُمنع من التصرّف والظهور.
ويكتب مرسومنا هذا بأن لا يسلك أحد ما سلكه المذكور من هذه المسالك، وينهى عن التشبيه في اعتقاد مثل ذلك، أو يعود له في هذا القول متّبعاً، أو لهذه الالفاظ مستمعاً، أو يسري في مسراه، أو يفوه بجهة العلّو بما فاه، أو يتحدّث أحد بحرف أو صوت، أو يفوه بذلك الى الموت، أو ينطق بتجسيم، أو يحيد عن الطريق
____________
(1) الكهف: 74.
(2) ليحفظ هذا، ثمّ ليحفظه المغررون. انتهى. مصحّحه.
(3) الزخرف: 19.
المستقيم، أو يخرج عن رأي الائمة، أو ينفرد به عن علماء الاُمّة، أو يحيّز الله سبحانه وتعالى في جهة، أو يتعرّض الى حيث وكيف، فليس لمعتقد هذا إلاّ السيف(1) .
فليقف كلّ واحد عند هذا الحدّ، ولله الامر من قبل ومن بعد.
وليلزم كلّ واحد من الحنابلة بالرجوع عن كلّ ما أنكره الائمّة من هذه العقيدة، والرجوع عن الشبهات الذائعة الشديدة، ولزوم ما أمر الله تعالى به، والتمسك بمسالك أهل الايمان الحميدة، فإنّه من خرج عن أمر الله فقد ضلّ سواء السبيل.
ومثل هذا ليس له إلاّ التنكيل، والسجن الطويل مستقرّه ومقيله وبئس المقيل.
وقد رسمنا بأن يُنادى في دمشق المحروسة والبلاد الشامية، وتلك الجهات الدنيّة والقصيّة: بالنهي الشديد، والتخويف والتهديد، لمن اتّبع ابن تيميّة في هذا الامر الذي أوضحناه.
ومن تابعه تركناه في مثل مكانه وأحللناه، ووضعناه من عيون الامّة كما وضعناه، ومن أصرّ على الامتناع، وأبى إلاّ الدفاع، أمرنا بعزلهم من مدارسهم ومناصبهم، وأسقطناهم من مراتبهم مع إهانتهم، وأن لا يكون لهم في بلادنا حكم ولا ولاية، ولا شهادة ولا إمامة، بل ولا مرتبة ولا إقامة.
فإنّا أزلنا دعوة هذا المبتدع من البلاد، وأبطلنا عقيدته الخبيثة التي أضلّ بها كثيراً من العباد أو كاد، بل كم أضلّ بها من خلق، وعاثوا بها في الارض الفساد.
____________
________________________________________
(1) لينظر هذا كذلك. انتهى. مصحّحه.
ولتثبت المحاضر الشرعية على الحنابلة بالرجوع عن ذلك، وتسيّر المحاضر بعد إثباتها على قضاء المالكية. وقد أعذرنا وحذّرنا، وأنصفنا حيث أنذرنا.
وليُقرأ مرسومنا الشريف على المنابر; ليكون أبلغ واعظ وزاجر، لكلّ باد وحاضر.
والاعتماد على الخطّ الشريف أعلاه.
وكُتب ثامن(1) عشرين شهر رمضان سنة خمس وسبعمائة(2) .
[تاريخ ابن تيمية كما نقله المؤرّخ ابن شاكر]
وأزيد على ذلك ما ذكره صاحب «عيون التواريخ»، وهو ابن شاكر، ويعرف بصلاح الدين الكتبي وبالتريكي، وكان من أتباع ابن تيميّة، وضُرب الضرب البليغ ; لكونه قال لمؤذّن في مأذنة العروس وقت السحر: أشركت، حين قال:
لا يارسول الله أنتَ وسيلتي … الى الله في غفران ذنبي وزلّتي
وأرادوا ضرب عنقه، ثمّ جدّدوا إسلامه.
____________
(1) كذا بالاصل، والمعنى ظاهر، ولعلّ الاصل في ثامن وعشرين من شهر… الخ، وكذا ما يأتي يقال فيه ذلك. انتهى. مصحّحه.
(2) إنّ في ذلك لعبرة لاولي الابصار. انتهى. مصحّحه.
وإنّما أذكر ما قاله لانه أبلغ في حقّ ابن تيميّة في إقامة الحجّة عليه، مع أنّه أهمل أشياء من خبثه ولؤمه، لما فيها من المبالغة في إهانة قدوته. والعجب أنّ ابن تيميّة ذكرها، وهو سكت عنها:
كلام ابن تيميّة في الاستواء ووثوب الناس عليه:
فمن ذلك ما أخبر به ابو الحسن علي الدمشقي ـ في صحن الجامع الاموي ـ عن أبيه، قال: كنّا جلوساً في مجلس ابن تيميّة، فذكر ووعظ وتعرّض لايات الاستواء، ثمّ قال: (واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا).
قال: فوثب الناس عليه وثبة واحدة، وأنزلوه من الكرسي، وبادروا إليه ضرباً باللكم والنعال وغير ذلك ; حتّى أوصلوه الى بعض الحكّام.
واجتمع في ذلك المجلس العلماء، فشَرَع يناظرهم، فقالوا: ما الدليل على ما صدر منك؟
فقال: قوله تعالى: (الرحمنُ على العرشِ استوى)(1) .
فضحكوا منه، وعرفوا أنّه جاهل لا يجري على قواعد العلم.
________________________________________
ثمّ نقلوه ليتحققوا أمره. فقالوا: ما تقول في قوله تعالى: (فأينما تُولُّوا فثمّ وجه الله) ؟
فأجاب بأجوبة تحقّقوا أنّه من الجهلة على التحقيق، وأنّه لا يدري ما يقول.
____________
(1) طه: 5.
وكان قد غرّه بنفسه ثناء العوامّ عليه، وكذا الجامدون(1) من الفقهاء، العارون عن العلوم التي بها يجتمع شمل الادّلة على الوجه المرضي.
وقد رأيت في فتاويه ما يتعلّق بمسألة الاستواء، وقد أطنب فيها، وذكر أموراً كلّها تلبيسات وتجرّيات خارجة عن قواعد أهل الحقّ، والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحُسن رويّة، ظنّ أنّها على منوال مرضيّ.
ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويله: «إنّ الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله تعالى: (هو الذي خلق السمواتِ والارضَ في ستةِ أيّام ثمّ استوى على العرشِ يعلم ما يَلجُ في الارضِ وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصيرٌ) ، فأخبر: أنّه فوق العرشِ يعلم كلّ شيء، وهو معنا أينما كنّا».
هذه عبارته بحروفها.
فتأمّل ـ أرشدك الله تعالى ـ هذا التهافت، وهذه الجرأة بالكذب على الله تعالى: أنه ـ سبحانه وتعالى ـ أخبر عن نفسه أنّه فوق العرش، ومحتجاً بلفظ الاستواء الذي هو موضوع بالاشتراك، ومن قبيل المجمل.
وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه يتحقّق به جهله وفساد تصوّره وبلادته.
وكان بعضهم يسمّيه: حاطب ليل، وبعضهم يسمّيه: الهدار المهذار.
وكان الامام العلامة شيخ الاسلام في زمانه أبو الحسن علي بن إسماعيل القونوي يصرّح بأنّه من الجهلة، بحيث لا يعقل ما يقول.
____________
(1) كذا بالاصل، وليس بخفيّ أنّ لفظ «الجامدين» حقّها الجامدون، وكذا العارون. انتهى. مصحّحة.
ويخبر أنه أخذ مسألة التفرقة(1) عن شيخه، الذي تلقّاها عن أفراخ السامرة واليهود الذين أظهروا التشرّف بالاسلام.
________________________________________
وهو(2) من أعظم الناس عداوة للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقَتَلَ عليٌّ رضي الله عنه واحداً منهم، تكلّم في مجلسه كلمة فيها ازد راء بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد وقفت على المسألة ; أعني مسألة التفرقة التي أثارها اليهود ; ليزدروه بها، وبحثوا فيها على قواعد مأخوذة من الاشتقاق، وكانوا يقطعون بها الضعفاء من العلماء، فتصدّى لهم الجهابذة من العلماء، وأفسدوا ما قالوه بالنقل والعقل والاستعمال الشرعي والعرفي، وأبادوهم بالضرب بالسياط وضرب الاعناق، ولم يبقَ منهم إلاّ الضعفاء في العلم، ودامت فيهم مسألة التفرقة حتّى تلقّاها ابن تيميّة عن شيخه، وكنت أظنّ أنّه ابتكرها.
واتفق الحُذّاق في زمانه من جميع المذاهب على سوء فهمه وكثرة خطئه، وعدم إدراكه للمآخذ الدقيقة وتصوّرها، عرفوا ذلك منه بالمفاوضة في مجالس العلم.
[تاريخ ابن تيمية الاسود]
ولنرجع الى ما ذكره ابن شاكر في تاريخه ; ذكره في الجزء العشرين.
قال: وفي سنة خمس وسبعمائة في ثامن رجب، عُقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب السلطنة بالقصر الابلق، فسُئل ابن تيميّة عن عقيدته ؟ فأملى
____________
(1) ظاهر أنّها الفوقية، وكذا ما يأتي بعد كالسياق أو التفرقة حياة الرسول ومماته. أنتهى. مصحّحه.
(2) ظاهر أنّ اللفظ هم لا هو. أنتهى. مصحّحه.
شيئاً منها.
ثمّ أُحضرت عقيدته الواسطيّة، وقرئت في المجلس، ووقعت بحوث كثيرة، وبقيت مواضع أُخّرت الى مجلس ثان، ثمّ اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب.
وحضر المجلس صفي الدين الهندي، وبحثوا، ثمّ اتفقوا على أنّ كمال الدين بن الزملكاني يحاقق ابن تيميّة، ورضوا كلّهم بذلك، فأفحم كمالُ الدين ابنَ تيميّة، وخاف ابن تيميّة على نفسه، فأشهد على نفسه الحاضرين أنّه شافعيّ المذهب، ويعتقد ما يعتقده الامام الشافعي، فرضوا منه بذلك وانصرفوا.
________________________________________
ثمّ إنّ أصحاب ابن تيميّة أظهروا أنّ الحقّ ظهر مع شيخهم، وأنّ الحقّ معه، فأُحضروا الى مجلس القاضي جلال الدين القزويني، وأحضروا ابن تيميّة وصُفع ورُسم بتعزيره، فشفّع فيه، وكذلك فعل الحنفي باثنين من أصحاب ابن تيميّة.
ثمّ قال: ولمّا كان سَلخُ رجب جمعوا القضاة والفقهاء، وعُقد مجلس بالميدان أيضاً، وحضر نائب السلطنة أيضاً، وتباحثوا في أمر العقيدة، وسلك معهم المسلك الاوّل.
فلمّا كان بعد أيّام ورد مرسوم السلطان ; صحبة بريديّ من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وبابن تيميّة، وفي الكتاب: تعرّفونا ما وقع في سنة ثمان وتسعين في عقيدة ابن تيميّة.
فطلبوا الناس وسألوهم عمّا جرى لابن تيميّة في أيّام نُقل عنه فيها كلام قاله، وأحضروا للقاضي جلال الدين القزويني العقيدة التي كانت أُحضرت في زمن قاضي القضاة إمام الدين، وتحدّثوا مع ملك الامراء في أن يكاتب في هذا الامر، فأجاب، فلمّا كان ثاني يوم وصل مملوك ملك الامراء على البريد من مصر، وأخبر أنّ الطلب على ابن تيميّة كثير، وأنّ القاضي المالكي قائم في قضيّته قياماً عظيماً،
وأخبر بأشياء كثيرة من الحنابلة وقعت في الديار المصرية، وأنّ بعضهم صُفع، فلمّا سمع ملك الامراء بذلك انحلّت عزائمه عن المكاتبة، وسيّر شمس الدين بن محمّد المهمندار الى ابن تيميّة، وقال له:
قد رسم مولانا ملك الامراء بأن تسافر غداً، وكذلك راح الى قاضي القضاة، فشرعوا في التجهيز، وسافر صحبة ابن تيميّة أخواه عبدالله وعبدالرحمن، وسافر معهم جماعة من أصحاب ابن تيميّة.
وفي سابع شوّال وصل البريدي الى دمشق، وأخبر بوصولهم الى الديار المصريّة، وأنّه عقد لهم مجلس بقلعة القاهرة بحضرة القضاة والفقهاء والعلماء والامراء: فتكلّم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي وادّعى على ابن تيميّة في أمر العقيدة، فذكر منها فصولاً.
________________________________________
فشرع ابن تيميّة فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وتكلّم بما يقتضي الوعظ، فقيل له: ياشيخ إنّ الذي تقوله نحن نعرفه، وما لنا حاجة الى وعظك، وقد أدُّعي عليك بدعوى شرعية فأجب.
فأراد ابن تيميّة أن يعيد التحميد، فلم يمكّنوه من ذلك، بل قيل له: أجب.
فتوقّف، وكُرِّر عليه القول مراراً، فلم يزدهم على ذلك شيئاً، وطال الامر، فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبسِ أخويه معه.
فحبسوه في بُرج من أبراج القلعة فتردّد إليه جماعة من الامراء، فسمع القاضي بذلك، فاجتمع بالامراء، وقال: يجب عليه التضييق إذا لم يقتل، وإلاّ فقد وجب قتله، وثبت كفره.
فنقلوه الى الجُبّ بقلعة الجبل، ونقلوا أخويه معه بإهانة.
وفي سادس عشر ذي القعدة وصل من الديار المصرية قاضي القضاة نجم
الدين بن صصري، وجلس يوم الجمعة في الشباك الكمالي، وحضروا القرّاء والمنشدون، وأُنشدت التهاني، وكان وصل معه كتب ولم يعرضها على نائب السلطنة، فلمّا كان بعد أيّام عرضها عليه، فرسم ملك الامراء بقراءتها والعمل بما فيها أمتثالاً للمراسيم السلطانية.
وكانوا قد بيّتوا على الحنابلة كلّهم بأن يحضروا الى مقصورة الخطابة بالجامع الاُموي بعد الصلاة،وحضر القضاة كلّهم بالمقصورة، وحضر معهم الامير الكبير ركن الدين بيبرس العلاني، وأحضروا تقليد القضاة نجم الدين بن صصري، الّذي حضر معه من مصر باستمراره على قضاء القضاة وقضاء العسكر ونظر الاوقاف وزيادة المعلوم، وقرىء الكتاب الذي وصل على يديه، وفيه ما يتعلّق بمخالفة ابن تيمية عقيدته وإلزام الناس بذلك، خصوصاً الحنابلة، والوعيد الشديد عليهم، والعزل من المناصب، والحبس وأخذ المال والروح ; لخروجهم بهذه العقيدة عن الملّة المحمّدية.
________________________________________
ونسخة الكتاب نحو الكتاب المتقدّم، وتولّى قراءته شمس الدين محمّد بن شهاب الدين الموقع، وبلغ عنه الناس ابن صبح المؤذّن، وقُرىء بعد تقليد الشيخ برهان الدين بالخطابة، وأحضروا بعد القراءة الحنابلة مُهانين بين يدي القاضي جمال الدين المالكي بحضور باقي القضاة، واعترفوا أنّهم يعتقدون ما يعتقده محمّد ابن إدريس الشافعي (رضي الله عنه).
وفي سابع شهر صفر سنة ثمان عشرة، ورد مرسوم السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق الذي يُفتي بها ابن تيميّة.
وأمر بعقد مجلس له بدار السعادة، وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء، وحضر ابن تيميّة وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق، وكونهم نهوه وما انتهى، ولا قبل مرسوم السلطان، ولا حكم الحكام بمنعه، فأنكر.
فحضر خمسة نفر، فذكروا عنه: أنه أفتاهم بعد ذلك، فانكر وصمّم على الانكار، فحضر ابن طليش وشهود شهدوا أنّه أفتى لحّاماً اسمه قمر مسلماني في بستان ابن منجا.
فقيل لابن تيميّة: اكتب بخطك: أنك لا تُفتي بها ولا بغيرها، فكتب بخطّه: أنه لا يُفتي بها وما كتب بغيرها.
فقال القاضي نجم الدين بن صصري: حكمتُ بحبسك واعتقالك.
فقال له: حكمك باطل ; لانّك عدوّي، فلم يُقبل منه، وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق.
وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يوم عاشوراء، أُفرج عن ابن تيميّة من حبسه بقلعة دمشق، وكانت مدّة اعتقاله خمسة أشهر ونصفاً.
وفي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة في السادس عشر في شعبان، قدم بريدي من الديار المصرية، ومعه مرسوم شريف باعتقال ابن تيميّة.
فاعتقل في قلعة دمشق، وكان السبب في اعتقاله وحبسه أنّه قال: لا تُشدّ الرحال إلاّ الى ثلاثة مساجد، وإنّ زيارة قبور الانبياء لا تُشد إليها الرواحل كغيرها، كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم).
________________________________________
ثمّ إنّ الشامييّن كتبوا فُتيا أيضاً في ابن تيميّة ; لكونه أوّل من أحدث هذه المسألة، التي لا تصدر إلاّ مّمن في قلبه ضغينة لسيّد الاولين والاخرين.
فكتب عليها الامام العلاّمة برهان الدين الفزاريّ نحو أربعين سطراً بأشياء، وآخر القول أنّه أفتى بتكفيره.
ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين بن جهبل الشافعي، وكتب تحت خطّه: كذلك المالكي.
وكذلك كتب غيرهم.
ووقع الاتّفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته.
ثمّ أراد النائب أن يعقد لهم مجلساً، ويجمع العلماء والقضاة، فرأى أنّ الامر يتّسع فيه الكلام، ولابدّ من إعلام السلطان بما وقع، فأخذ الفتوى وجعلها في مطالعه وسيّرها.
فجمع السلطان لها القضاة، فلمّا قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، وكتب عليها: القائل بهذه المقالة ضالّ مبتدع.
ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي، فصار كفره مُجمعاً عليه(1) .
ثمّ كُتب كتاب الى دمشق بما يعتمده نائب السلطنة في أمره.
وفي يوم الجمعة عاشر شهر شعبان حضر كتاب السلطان الى نائب البلد، وأمره أن يُقرأ على السدّة في يوم الجمعة فقُرىء، وكان قارىء الكتاب بدر الدين ابن الاعزازي الموقع والمبلغ ابن النجيبي المؤذّن.
ومضمون الكتاب بعد البسملة: أدام الله تعالى نعمه، ونوضّح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي جهّزها بسبب ابن تيميّة، فوقفنا عليها، وعلمنا مضمونها في أمر المذكور وإقدامه على الفتوى بعد تكرير المراسيم الشريفة بمنعه ; حسب ما حكم به القضاة وأكابر العلماء.
وعقدنا بهذا السبب مجلساً بين أيدينا الشريفة، ورسمنا بقراءة الفتوى على القضاة والعلماء.
فذكروا جميعاً من غير خلف: أنّ الذي أفتى به ابن تيميّة في ذلك خطأ مردود عليه، وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى مطلقاً.
وكتبوا خطوطهم بين ايدينا على ظاهر الفتوى المجهّزة بنسخة ما كتبه ابن
____________
(1) لينظر هذا المغرورون. انتهى. مصحّحه.
تيميّة.
________________________________________
وقد جهّزنا الى الجناب العالي طيّ هذه المكاتبة، فيقف على حكم ما كتب به القضاة الاربعة.
ويتقدم اعتقال المذكور في قلعة دمشق، ويُمنع من الفتوى مطلقاً، ويُمنع الناس من الاجتماع به والتردّد اليه تضييقاً عليه، لجرأته على هذه الفتوى.
فيحيط به علمك الكريم، ويكون اعتماده بحسب ما حكم به الائمة الاربعة، وأفتى به العلماء في السجن للمذكور وطول سجنه.
فإنّه في كلّ وقت يُحدث للناس شيئاً منكراً، وزندقة يشغل خواطر الناس بها، ويُفسد على العوامّ عقولهم الضعيفة وعقلياتهم وعقائدهم.
فيمنع من ذلك، وتسدّ الذريعة منه.
فليكن عمله على هذا الحكم، ويتقدّم أمره به.
وإذا اعتمد الجناب الرفيع العالي هذا الاعتماد الذي رسمنا به في أمر ابن تيمية، فيتقدم منع من سلك مسالكه، أو يُفتي بهذه الفتاوى، أو يعمل بها في أمر الطلاق، أو هذه القضايا المستحدثة.
وإذا اطّلع على أحد عمل بذلك، أو أفتى به، فيعتبر حاله، فإن كان من مشايخ العلماء، فيعزّر تعزير مثله.
وإن كان من الشبّان الذين يقصدون الظهور ـ كما يقصده ابن تيميّة ـ فيؤدّبهم ويردعهم ردعاً بليغاً، ويعتمد في أمرهم ما يُحسم به موادّ أمثاله ; لتستقيم أحوال الناس، وتمشي على السداد، ولا يعود أحد يتجاسر على الافتاء بما يخالف الاجماع، ويبتدع في دين الله ـ عزّ وجلّ ـ من أنواع الاقتراح ما لم يسبقه أحد إليه.
فالجناب العالي يعتمد هذه الامور التي عرّفناه إيّاها الان وسدّ الذرائع
فيها.
وقد عجّلنا بهذا الكتاب، وبقيّة فصول مكاتبته تصل بعد هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وكتب في سابع عشرين رجب سنة ستٍّ وعشرين وسبعمائة.
[فتوى الائمة الاربعة بكفر ابن تيمية]
صورة الفتوى من المنقول من خطّ القضاة الاربعة بالقاهرة على ظاهر الفتوى:
الحمد لله، هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله: إنّ زيارة الانبياء والصالحين بدعة.
وماذكره من نحوذلك، وأنّه لايرخّص بالسفر لزيارة الانبياء،باطل مردود عليه.
________________________________________
وقد نقل جماعة من العلماء: أنّ زيارة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) فضيلة وسُنّة مجمع عليها. وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يُزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند الائمة والعلماء، ويُمنع من الفتاوى الغريبة، ويحبس(1) إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره ; ليحتفظ الناس من الاقتداء به.
وكتبه محمّد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.
وكذلك يقول محمّد بن الجريري الانصاري الحنفي: لكن يُحبس الان جزماً مطلقاً.
وكذلك يقول محمّد بن أبي بكر المالكي ويبالغ في زجره حسبما تندفع به المفسدة وغيرها من المفاسد.
____________
(1) ظاهر أنّ اللفظ «ويحبس» لا يجلس. أنتهى. مصحّحه.
وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي.
ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها: بأنّ زيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وقبور الانبياء معصية بالاجماع مقطوع بها.
وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكّام، وشهد بذلك القاضي جلال الدين محمّد بن عبدالرحمن القزويني، فلمّا رأوا خطّه عليها تحققوا فتواه، فغاروا لرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)غيرة عظيمة، وللمسلمين الذين ندبوا الى زيارته، وللزائرين من أقطار الارض، واتّفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه، وأهانوه ووضعوه في السجن.
وذكر الشيخ الامام العلاّمة شمس الدين الذهبي بعض محنته، وأنّ بعضها كان في سنة خمس وسبعمائة، وكان سؤالهم عن عقيدته وعمّا ذكر في الواسطيّة، وطلب وصوّرت عليه دعوى المالكي، فسجن هو وأخواه بضعة عشر شهراً، ثمّ أُخرج، ثمّ حبس في حبس الحاكم.
وكان مّما أُدّعي عليه بمصر أن قال: الرحمن استوى على العرش حقيقة، وأنّه تكلّم بحرف وصوت.
ثمّ نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيميّة حلّ ماله ودمه(1) .
[حكم ابن حيان على ابن تيمية بالتشبيه]
________________________________________
وذكر أبو حيّان النحوي الاندلسي في تفسيره المسمّى بـ «النهر» في قوله تعالى: (وَسِعَ كُرسيُّهُ السَّمواتِ والارضَ) ما صورته: وقد قرأت في كتاب لاحمد ابن تيميّة هذا الذي عاصرناه، وهو بخطّه سمّاه «كتاب العرش»: إنّ الله يجلس
____________
(1) ليتأمل العاقل هذا، ثمّ ليتأمّله. انتهى. مصحّحه.
على الكرسيّ، وقد أخلى مكاناً يقعد معه فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
تحيّل عليه التاج محمّد بن علي بن عبدالحقّ، وكان من تحيّله عليه أنّه أظهر أنّه داعية له حتّى أخذ منه الكتاب، وقرأنا ذلك فيه.
ورأيت في بعض فتاويه: أنّ الكرسي موضع القدمين.
وفي كتابه المسمّى بـ «التدمرية» ما هذا لفظه بحروفه ـ بعد أن قرّر ما يتعلق بالصفات المتعلّقة بالخالق والمخلوق ـ: ثمّ من المعلوم أنّ الربّ لمّا وصف نفسه: بأنّه حيّ عليم قادر، لم يقل المسلمون: إنّ ظاهر هذا غير مراد ; لانّ المفهوم ذلك في حقّه مثل مفهومه في حقّنا.
فكذلك لمّا وصف نفسه: أنّه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أنّ ظاهره غير مراد ; لانّ مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقّنا.
هذه عبارته بحروفها، وهي صريحة في التشبيه المساوي، كما أنّه جعل الاستواء على العرش مثل قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره) تعالى الله وتقدّس عن ذلك.
وقال في كلام حديث النزول المشهور: أنّ الله ينزل الى سماء الدنيا الى مَرْجة خضراء، وفي رجليه نعلان من ذهب. هذه عبارته الزائغة الركيكة.
وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة في التشبيه ; حريصاً على ظاهرها واعتقادها، وإبطال ما نزّه الله تعالى به نفسه في أشرف كتبه، وأمر به عموماً وخصوصاً، وذكره إخباراً عن الملا الاعلى والكون العُلوي والسُّفلي، ومن تأمّل القرآن وجده مشحوناً بذلك.
وهذا الخبيث لا يعرُج على ما فيه التنزيه، وإنّما يتتبّع المتشابه، ويُمعن الكلام فيه، وذلك من أقوى الادّلة على أنّه من أعظم الزائغين.
________________________________________
ومن له أدنى بصيرة لا يتوقّف فيما قلته ; إذ القرائن لها اعتبار في الكتاب
والسُّنّة، وتفيد القطع، وتفيد ترتّب الاحكام الشرعية، لا سيّما في محلّ الشُّبه.
قال بعض السلف رضي الله عنهم: الاعراض عن الحقّ والتسخّط له علامة الركون الى الباطل، وطريق الحقّ دقيق وبعيد، والصبر معه شديد، والعدوّ لا يزال عنه يحيد، وأثقال الحقّ لا يحملها إلاّ مطايا الحقّ.
وقال بعض السلف: داعي الحقّ داعي رشد، ليس للشيطان فيه يد، ولا للنفس فيه نصيب. وداعي الباطل من نزغات الشيطان وهوى النفس، ومتّبعها هالك لا محالة ; لانّه عاص في صورة طائع، ومُبعِد في صورة مُقرِّب.
وصدق ونصح (رضي الله عنه)، فقد هلك بسبب ذلك خلق لا يُحصون عدّاً، ولا يمكن ضبطهم حدّاً.
قال العلماء: إنّ وسوسة التشبيه من إبليس، فالردّ عليه وابطال وسوسته أن يقول في نفسه: كلّ ما تصوّر في صدري فالربّ بخلافه، فإنّه لا يتصوّر في صدري إلاّ مخلوق له كيفيّة ومِثْل، والربّ ـ سبحانه وتعالى ـ لا مِثْل له ولا كيفية، فما مثل في صدري فهو غير ربي، فهو ـ سبحانه وتعالى ـ موحّد الذات والصفات.
[التوحيد والعدل في كلام الائمة]
وسُئل علي (رضي الله عنه) عن التوحيد والعدل، فقال: (التوحيد أن لا تتوهّمه، والعدل أن لا تتّهمه).
وقال يحيى بن معاذ: التوحيد في كلمة واحدة ما تصوّر في الاوهام فهو بخلافه.
وقال علي (رضي الله عنه): (ليس لصفته حدّ محدود، ولا نعت موجود).
وقال (رضي الله عنه): (أوّل الدين معرفته، وكمالُ معرفته التصديق به، وكمالُ التصديق به
توحيده، وكمالُ توحيده الاخلاص له، وكمالُ الاخلاص له نفي الصفات الُمحدَثة عنه، فمن وصفه بحادث فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه(1) ، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه)(2) .
________________________________________
قال المحقّقون: من اعتقد في الله ـ سبحانه وتعالى ـ ما يليق بطبعه فهو مشبّه ; لانه ـ سبحانه وتعالى ـ منزّه عمّا يصفه به أو يتخيّله ; لانّ ذلك من صفات الحَدَث.
وسُئل ـ أعني عليّاً (رضي الله عنه): بمَ عرفت ربّك؟ فقال: (عرفتُه بما عرّف به نفسه ; لا يُدرك بالحوّاس، ولا يُقاسُ بالناس، قريب في بُعده، بعيد في قُربه، فوق كلّ شيء ولا يقال تحته شيء وأمام كلّ شيء، ولا يقال أمامه شيء، وهو في كلّ شيء لا كشيء في شيء فسبحان من هو هكذا وليس هكذا غيره)(3) .
وقال أيضاً (رضي الله عنه): (عرّفنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ نفسه بلا كيف، وبعث سيّدنا محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم) بتبليغ القرآن، وبيان المفصّلات للاسلام والايمان، وإثبات الحجّة وتقويم الناس على منهج الاخلاص، فصدّقته بما جاء به).
وقال الامام الحافظ محمّد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة: من جهل أوصاف العبوديّة فهو بنعت الربوبيّة أجهل.
____________
(1) قوله: «ثنّاه» هي ثنّاه. انتهى. مصحّحه.
(2) نهج البلاغة، الخطبة الاولى ص39 تحقيق الدكتور صبحي الصالح.
(3) لاحظ هذه النص في كتب الشيعة الامامية: المحاسن للبرقي ص239، والكافي للكليني 1/85، والتوحيد للصدوق ص285.
قال جعفر ]الصادق[ في قوله تعالى: (قل هو اللهُ أحدٌ) : (هو الذي لم يُعطِ لاحد من معرفته غير الاسم والصفة).
وقيل: هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته وصفاته إلاّ هو.
وقوله تعالى (الله الصمد) قيل هو الذي أيست العقول من أن تطّلع عليه، أو تُدرك ما وصف به نفسه ونسب إليه.
وقيل: هو السيّد الذي لا نهاية لسؤدده.
وقيل: هو المصمود إليه في الحوائج.
وقيل: هو الذي لا يستغني عنه شيء من الاشياء.
وقال ابن عبّاس (رضي الله عنه): معناه الذي لا جوف له. وقيل غير ذلك.
وقوله: (لم يلد ولم يُولد) نفي الجنسية والبعضية.
________________________________________
وقوله: (ولم يكنْ له كفواً أحدٌ) نفي الشريك والنظير، فهو الذي لا نظير له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله.
فتعالى أن تُدركه الاوهام والعقول والعلوم، بل هو كما وصف نفسه، والكيفية عن وصفه غير معقولة ولا موهومة، كيف يكون ذلك؟ وهو قديم الذات والصفات، والتخيّل إنّما يكون في المحدثات.
وسئل الامام العلاّمة أبو الحسن الدينوري عن الاستدلال بالشاهد على الغائب، فقال: كيف يستدلّ بصفات من يشاهد ويعاين وذو مثل على من لا يُشاهد ولا يُعاين في الدنيا ولا نظير له ولا مثل؟!
هذا من جهل الجاهلين بالايات التي قلبوا بها حقائق الامور، فجعلوا الايات صفات، ومعنى الايات العلامات.
وهو كلام إمام محقّق، وقد زلّ خلق كثير بمثل ذلك.
فسبحان الاحدي الذات، العليّ الصفات، المنزّه عن الالات، المقدّس عن
الكيفيات، المنزّه عن مشابهة المخلوقات، تعالى عمّا يقوله من الالحاقات.
كيف يُقاس القادر بالمقدورات والصانع بالمصنوعات؟! وهي من آياته البيّنات الظاهرات.
رفع السموات، وبسط الارض وثبتها بالاوتاد الراسيات، وأتحفها بالمُزن الماطرات، فزهت بأنواع النباتات المختلفات، كذلك يحيي الموتى. (إعلموا أنّ الله يُحيي الارض بعد موتِها قد بيَّنّا لكم الاياتِ) .
قال أرباب البصائر وذوو التحقيقات: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم من جهة المعنى، ولا لصفته صفة من جميع الوجوه إلاّ من جهة موافقة اللفظ.
وكما لم يجز أن يظهر من مخلوق صفة قديمة، كذلك يستحيل أن يظهر من الذات الذي ليس كمثله شيء صفة حديثة.
وأنّ التكرار من حدوث الصفة، جلّ ربّنا أن يحدث له صفة أو أسم ; إذ لم يزل بجميع صفاته واحداً، ولا يزال كذلك.
وكلّ أمور التوحيد والتفريد خرجت(1) من هذه الكلمة(ليس كمثله شيء) .
________________________________________
لانّه ما عبّر عن الحقيقة بشيء إلاّ والعلّة مصحوبة والعبارة منقوضة ; لان الحقّ لا ينبعث(2) أقداره إلاّ على إقراره ; لانّ كلّ ناعت مشرف على المنعوت، وجلّ ربّنا أن يشرف عليه مخلوق، احتجب عن خلقه بخلقه، ثمّ عرّفهم صنعه
____________
(1) أي ظهرت للمؤمنين وفهموها من هذه الكلمة. انتهى. مصحّحه.
(2) قوله: «لا ينبعث» هو لا ننعت… الى آخره. بدليل قوله بعد ذلك: «لانّ كلّ ناعت…» الى آخره. انتهى. مصحّحه.
بصنعه، وساقهم الى أمره بأمره، فلا يمكن الاوهام أن تناله، ولا العقول أن تختاله(1) ، ولا الابصار أن تمثله، ولا الاسماع أن تشتمله(2) ، ولا الاماني أن تمتنحه.
هو الذي لا قبل له، ولا مفرّ(3) عنه ولا معدل، ولا غاية وراءه ولا مثل. ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا انقضاء، ولا يستره حجاب، ولا يقلّه مكان ولا يحويه هواء، ولا يحتاطه(4) فضاء، ولا يتضمّنه خلاء (ليس كمثلهِ شيء وهو السميعُ البصيرُ) .
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: معنى الاية ليس له نظير.
وقيل: الكاف صلة ; أعني زائدة، فالمعنى: ليس مثله شيء.
وقيل: المثل صلة، فالمعنى ليس كهو شيء، فأدخل المثل للتأكيد.
فمن الجهل البيّن أن يطلب العبد درك ما لا يُدرك، وأن يتصوّر ما لا يُتصوَّر.
كيف ؟
وقد نزّه نفسه بنفسه عن أن يدرك بالحوّاس، أو يُتصور بالعقل الحادث
____________
(1) يريد: أن تتخيّله. انتهى. مصحّحه.
(2) لعلّها تشمله ; أي هو ليس من جنس الاصوات فتسمعه الاسماع. انتهى. مصحّحه.
(3) لعلّها مفرّ. أنتهى. مصحّحه.
(4) لعلّ الاصل«لا يحيط به…» الى آخره. أنتهى مصحّحه. عبارة المصنّف صحيحة لمجيء «احتاط» بمعنى «أحاط».
والقياس، فلا يدركه العقل الصحيح من جهة التمثيل، ويدركه من جهة الدليل.
________________________________________
فكلّ ما يتوهّمه العقل فهو جسم، وله(1) نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه، مع ما يلزمه من الحدود والمساحة، ومن الطول والعرض، وغير ذلك من صفات الحدث، تعالى الله عن ذلك.
فهو الكائن قبل الزمان والمكان المحدَثين، وهو الاوّل قبل سوابق العدم، الابدي بعد لواحق القدم، ليس كذاته ذات، ولا كصفاته صفات، جلّت الذات القديمة الواجبة الوجود ـ التي لم تُسبق بعدم(2) أن تكون كالصفة الحديثة.
قال تعالى: (أو لا يَذكرُ الانسان أنّا خلقناهُ مِن قبلُ ولم يكُ شيئاً) .
فهو ـ سبحانه وتعالى ـ احتجب عن العقول والافهام كما احتجب عن الادراك والابصار، فعجز الخلق عن الدَّرك، والدَّرك عن الاستنباط، وانتهى المخلوق الى مثله، وأسنده الطلب الى شكله.
قال الصدّيق (رضي الله عنه): «العجز عن درْك الادراك إدراك».
وقال (رضي الله عنه): «سبحان من لم يجعل للخلق سبيلاً الى معرفته إلاّ بالعجز عن معرفته».
فهو سبحانه عليم قدير سميع بصير، لا يوصف علمه وقدرته وسمعه وبصره بما يوصف به المخلوق ولا حقيقته.
كذلك عُلّوه واستواؤه ; إذ الصفة تتبع الموصوف.
فإذا كانت حقيقة الموصوف ليست من جنس حقائق سائر الموصوفات،
____________
(1) قوله: ولا نهاية صوابه وله نهاية الى آخره. كما هو ظاهر. انتهى. مصحّحه.
(2) قوله: «بقدم» هو بعدم، كما هو واضح. انتهى مصحّحه.
فكذلك حقيقة صفاته.
فأجهل الناس وأحمقهم وأجحدهم للحقّ، مَن يُشبّه من ليس كمثله شيء بالمخلوق المصنوع في شيء من صفاته وأفعاله وذاته (تعالى الله عمّا يقولونَ علوّاً كبيراً) .
لانّه ـ سبحانه وتعالى ـ وصفاته مصون عن الظنون الكاذبة والاوهام السخيفة.
وقيل في قوله تعالى: (وما قدروا الله حقَّ قدره) أي ما وصفوه حقّ وصفه.
وقيل: ما عظّموه حقّ عظمته.
وقيل: ما عرفوه حقّ معرفته، وقيل غير ذلك.
________________________________________
قال بعض أهل المعاني والقلوب: لا يعرف قدر الحقّ إلاّ الحقّ، وكيف يقدر أحد قدره وقد عجز عن معرفة قدره الوسائط والرسل والاولياء والصدّيقون؟
ثم قال: ومعرفة قدره أن لا تلتفت عنه الى غيره، ولا تغفل عن ذكره، ولا تفتر عن طاعته ; إذ ذاك(1) عرفت قدر ظاهر قدره، وأمّا حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلاّ هو.
وصدق ; لانّ الخلق تعجز عن تنزيهه بما يستحقّه من كمال صفاته وعظم ذاته.
____________
(1) أي لو كنت كما ذكر قد الخ أنتهى. مصحّحه.
[في التسبيح]
ولهذا نزّه سبحانه نفسه بقوله: (سبحان ربِّك ربِّ العزّة عمَّا يصفون) ، وفي هذا غاية الحثّ على كثرة التنزيه ودوامه، مع أمره لاكمل خلقه في قوله تعالى: (سبّح اسم ربّك الاعلى) ، مع غير ذلك مّما في أشرف الكتب مّما أذكر بعضه.
فقوله: (سبّح اسم ربِّك) أي قل: سبحان ربّي الاعلى، والمعنى: نزّه اسم ربّك واذكره وأنت له معظّم.
وقيل:نزّه عن المعاني المفضِية الى نقصه.
وقيل: نزّه اسمه عن الكذب إذا أقسمت به.
وقيل: لفظ اسم زائد، وفي الكلام حذف، المعنى: نزّه مسمّى ربّك الذي خلق فسوّى، أي مخلوقه ; بأن خلقه مستوياً بلا تفاوت فيه وفي أعضائه، وغير ذلك من مخلوقاته، فإنّ مَنْ هذا من بعض مصنوعاته يستحقّ التنزيه، فكيف بمخلوقات اُخر يعجز الخلق عن إدراكها لعظمها؟! وكلّها على اختلاف أجناسها وأنواعها، كلٌّ يسبّحه بلغته،وبما يليق بجلاله.
قال تعالى: (يسبّحُ لهُ السمواتُ السَّبعُ والارضُ ومن فيهنَّ وإن من شيء إلاّ يسبَّحُ بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) .
وقال: (والطيرُ صافات كلٌّ قد عَلِمَ صلاتهُ وتسبيحهُ) .
قال مجاهد: تسبيح المخلوقات هو تنزيه خالقها وتوحيده بما يستحقّه ; من كمال صفات عظم ذاته.
قيل: يفقه تسبيحهم العلماء الرّبّانيون الذين انفتحت أسماع بصائرهم والمنوّرون البصائر الذين يشاهدون كلّ شيء مرقوماً عليه بقلم القُدرة: هو الملك القُدّوس.
________________________________________
وقال مجاهد: كلّ الاشياء تسبّح حيواناً وجماداً، وتسبيحها: سبحان الله وبحمده.
وروى ابن السني: أنّه (عليه السلام) قال: (ما تستقبل الشمس فيبقى شيء من خلق الله تعالى إلاّ سبّح الله تعالى وحمده، إلاّ ما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم. فقيل: ما أغبياء بني آدم؟ فقال: شرار الخلق).
وقال شهيب(1) بن حوشب: حملة العرش ثمانية: أربعة يقولون: سبحانك اللّهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة يقولون: سبحانك اللّهمّ وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.
[في التقديس]
وقال: (هو الله الذي لا إله إلاّ هو الملكُ القدّوس) فالملك اسم من أسمائه تعالى، وكذا مليك، وهو صفة مبالغة في الملك، قال تعالى: (عند مليك مقتدر) فالملك هو المُستغني عن كلّ شيء، ويفتقر إليه كلّ شيء، ونافذ حكمه في مملكته طوعاً أو كرهاً.
وقيل: هو القادر على الابداع والانشاء والاعدام، وهذا على الحقيقة لا يكون إلاّ لله ـ عزّ وجلّ ـ أبدع المكوِّنات العُلويّات والسُّفليّات الجليّات والخفيّات، أبدعها بقدرته ورتّبها على اختلاف أطوارهابحكمته، فكلّ مابرز فهو مقهور الوجود بـ «كُنْ»، وكلّ ما انعدم فهو مقهور العدم بـ «كُنْ».
وبهذا يُعلم أنّ إطلاق الملك على ما سواه أمر مجازيّ، إذ المملوك لا يكون مالكاً ; لانّ من هو تحت قهر الاغيار فهو كالعدم.
ولهذا لمّا تحقّق أرباب القلوب أنّ الملك لله ـ عزّ وجلّ ـ تحقّقاً قلبيّاً، سكنت
____________
(1) معروف هذا الاسم بـ «شهر». انتهى. مصحّحه.
أنفسهم عن وصف الاضافات، وتبرّؤوا من الحول والقوّة حتى بالاشارات، فلا يقول: منّي، ولا لي ; حتّى قيل لبعضهم: ألك ربّ؟ فقال أنا عبد، وليس لي نملة، ومن أنا حتّى أقول: لي.
فهذا وأمثاله صفّى نفسه عن رعونة البشريّة وهواها، وفكّ رِبقة رِقّ خيالاتها الباطلة ومُناها، ومحض رقّ العبودية لمولاها.
________________________________________
فترى الملوك الجبابرة مع جبروتهم يخضعون ويتذلّلون له. ولهذا تتّمات ليس هذا المقام مقامها ; إذ الغرض التنزيه.
والقُدُّوس من أسمائه ـ عزّ وجلّ ـ سمّى نفسه بذلك ليُرشدك الى تقديسه، كما أشار الى ذلك بقوله تعالى: (يُسبِّحونَ اللَّيل والنَّهار لا يفترونَ) .
وفيه الحثّ على دوام التقديس.
فالقُدُّوس قيل: هو المنزّه عمّا لا يليق به من الاضداد والانداد.
وقيل: هو المنزّه والمطهّر من النقائص والعيوب.
وهاتان غير مرضيّين عند المحقّقين.
قال حجّة الاسلام الغوّاص الغزالي: «وهذا في حقّ الباري ـ سبحانه وتعالى ـ يقارب ترك الادب، كما أنّه ليس من الادب أن يقال لملك: ليس بحائك ولا بحجّام ; لانّ نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود، وفي ذلك الايهام نقص.
بل القدّوس: المنزّه عن كلّ وصف يُدركه حِسّ، أو يتصوّره وَهْم، أو يسبق إليه فكر، أو يهجس به سِرّ، أو يختلج به ضمير، أو يسنح له خفيّ خيال».
وقد أجاد (رضي الله عنه).
[فائدة جليلة للمنزّه والمشبّه]
وههنا فائدة جليلة للمنزّه والمشبِّه: وهي أنه ينبغي للعبد أن يجعل له حظّاً
وافراً من تكرير هذا الاسم والامعان في معناه، فإن كان منزَّهاً عطف ذلك عليه، وقدّس نفسه وقلبه وبدنه:
أمّا نفسه فيطهّرها من الاوهام المذمومة، كالغضب والحقد والحسد والغشّ وسوء الظنّ والكبر وحبّ الشرف والعُلوّ وحبّ الدنيا ولوازمها وغير ذلك، ويبدلها بالاوصاف المحمودة، فيطهّرها أيضاً عن العاهات والشهوات، وما تدعو إليه من المستحسنات والمألوفات ; إذ هي أزّمة الشيطان يقود بها الى ارتكاب الموبقات.
________________________________________
وأمّا القلب فيطهّره بالعقد الصحيح المطابق الجازم، وبالمبادرة الى امتثال الاوامر واجتناب النواهي والاهواء، وتحقيق الاخلاص نيّة وقولاً وعملاً، وبالرضا بما جرى، فلا يأسف على فائت ولا يفرح بآت، وذلك يرجع الى ذوق حلاوة الايمان القلبي لا العملي، وعلامته تقديس القلب عن ملاحظة الاكوان، ولا يرى الاغيار إلاّ على العدم الاصلي، فلا يتحرّك في ظاهره ولا باطنه حتّى في أنفاسه إلاّ بالله عزّ وجلّ.
وأما البدن فيطهّره بماء الجوع، ويكفنّه بدوام التقشّف، ويحنّطه بالعُزلة، ويطيّبه بدوام الذكر والفكر، ويدفنه في لحد الخوف، فإذا قدّسه بذلك ذهب مغناه، وبقي معناه.
فإذا اجتمعت له هذه التقديسات ذهبت أوصافه القواطع والموانع، ولاح له خزائن أسرار الايات في معارج ترداد الايات، فأثمر له ذلك كشف أسرار الملكوتيات، فيثمر له ذلك الشوقَ إلى رؤية مطلوبه، فلا شيء أشهى إليه من الموت ; لانّه لا سبيل الى الوصول الى محبوبه إلاّ به، فمن أراد أن يجلسه في حضرة القُدس على منابر التقديس، فليجرِ على هذا التأسيس.
ومرّ إبراهيم بن أدهم ـ قدس الله روحه ـ بسكران مطروح على قارعة الطريق
وقد تقيأ، فنظر إليه وقال: بأي لسان أصابته هذه الافة، وطهّر فمه ومضى.
فلمّا أفاق السكران أُخبر بما فعله به إبراهيم، فخجل وتاب، وحسنت توبته.
فرأى إبراهيم فيما يرى النائم كأنّ قائلاً يقول: غسلت لاجلنا فمه، فلا جرم أنّا طهّرنا لاجلك قلبه.
وأمّا المشبّه والمجسِّم فلانّه بتكرار هذا الاسم يتعقّل معناه، فيضيء له نوره، فينكشف له حجاب الضلال، فإذا حقّق المعنى المراد منه ظهر له نوره، فأحرق حجاب الضلال، فصفا قلبه للحقّ وزاح الباطل.
وقد وقع ذلك لبعض الغُلاة في التشبيه والتجسيم، مرّ يوماً على هذه الاية (هو الله الذي لا إله إلاّ هو الملك القُدُّوس) ، فكرّر هذا الاسم وتعقّل معناه، فقال: والله أنا لفي ضلال مُبين بيّن.
________________________________________
فبادر في الحال، وأتى بالشهادتين، وقال: والله لا يخلّصني إلاّ استئناف العمل.
فانظر ـ أرشدك الله تعالى ـ الى بركة تكرير هذا الاسم العظيم في حقّ أهل التنزيه والتشبيه، والله أعلم.
[حقيقة التوحيد في الذات والافعال]
ثمّ تمام التقديس لا يحصل إلاّ بالتمكّن بعد كمال التوحيد، وحقيقة التوحيد تكون باعتبار الذات وباعتبار الفعل:
فتوحيد الذات ينفي الحدوث، وثبوت الاحديّة ينفي الاضداد، وثبوت الذات ينفي التشبيه، ويحيّر العقل في بحر الادراك.
وأما توحيد الافعال فهو شهود القدرة في المقدور، ثمّ الاستغراق في أنوار
العظمة، فيغيب بذلك عن الموجودات، وتبقى القدرة بارزة بأسرار التوحيد، ثمّ الاستغراق في أنوار المحو، فيغيب عن رؤية القدرة بالقادر.
ومن مقدوراته ـ جلّ وعلا ـ ما ذكره في قوله تعالى: (يوم يقومُ الرُّوحُ) .
قال أبو الفرج بن الجوزي: رُوي عن عليّ (رضي الله عنه) في تفسيرها: (أنّ الروح مَلَكٌ عظيم، له سبعون ألف وجه، في كلّ وجه سبعون ألف لسان، لكلّ لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلّها، يخلق الله ـ عزّ وجلّ ـ من كلّ تسبيحة مَلَكاً يطير مع الملائكة الى يوم القيامة).
وقال ابن مسعود (رضي الله عنه): «الروح مَلَكٌ عظيم ; أعظم من السموات والارضين والجبال والملائكة، يسبّح كلّ يوم ألف ألف تسبيحة، يخلق الله ـ سبحانه وتعالى ـ من كلّ تسبيحة مَلَكاً يجيء يوم القيامة صفّاً والملائكة بأسرهم يجيئون صفاً».
قال ابن عبّاس: وهو الذي ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة، وبيده لواء طوله ألف عام، فيغرزه في ظهر الكعبة، ولو أذن الله ـ عزّ وجلّ ـ له أن يلتقم السموات والارض لفعل.
وقيل: الروح هنا جبريل (عليه السلام).
وقيل: هو مَلَكٌ ما خلق الله بعد العرش خلقاً أعظم منه، وقيل غير ذلك.
رُوي أنّه (عليه السلام) قال: (رأيت على كلّ ورقة من السِّدرة مَلَكاً قائماً يسبّح الله عزّوجلّ).
________________________________________
ومراده «سدرة المنتهى» سُمّيت بذلك لانّها لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم، ولا يعلم ما وراءها إلاّ الله عزّ وجلّ، وهي شجرة نَبق على يمين العرش، عندها جنّة المأوى، يأوي إليها الملائكة عليهم السلام، وقيل: أرواح الشهداء،
وقيل: أرواح المتّقين.
[ذو الجلال والاكرام]
وقال الله تعالى: (تبارك اسم ربِّك ذي الجلال والاكرام) معنى «تبارك» جلّ وعظم، ومعنى «ذي الجلال» المستحقّ للرفعة وصفات التعالي ونعوت الكمال.
جلّ أن يعرف جلاله غيره، تنزّه وعظُم شأنه عمّا يقول فيه المبطلون ; لانّ كلّ شيء يُثني عليه بقدرته، وكلّ ذاكر يذكره على قدر طاقته وطبعه وعلمه وفهمه.
والحقّ ـ جلّ جلاله ـ ذكره خارج عن أوهام الادميّين ; لانّ الحادث ناقص بقهر الايجاد والفناء، والعارف(1) دون الغايات الجلالية.
فسبحانه ما أثنى عليه حقّ ثنائه غيره، ولا وصفه بما يليق به سواه، عجز الانبياء والرسل بأجمعهم عن ذلك، قال أجلّهم قدراً، وأرفعهم محلاًّ، وأبلغهم نطقاً، مع ما أُعطي من جوامع الكَلِم: (لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
وأمّا(2) «الاكرام» فمعناه: ذو الانعام والمِنَن على العامّ والخاصّ والطائع والعاصي.
____________
(1) لم يظهر لي في هذه العبارة معنًى فلتحرّر. أنتهى. مصحّحه.
(2) «ذو الانعام» ليس معنى «الاكرام»، بل معنى «ذو الاكرام»، فهنا لفظ «ذو» ساقط. انتهى مصحّحه. بل ليس هناك سقط في العبارة حيث إنه يفسّر قوله تعالى
________________________________________

The URI to TrackBack this entry is: https://ahlalsonnah.wordpress.com/2009/07/24/%d8%a7%d9%84%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%af%d9%81%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a8%d9%87-%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d8%b3%d9%88%d9%84-%d8%b5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%87-%d8%b9%d9%84-2/trackback/

RSS feed for comments on this post.

أضف تعليق